البعض يتصور أن التقدم العلمي والحضارة الإنسانية هي مسيرة بدأت منذ القدم وتستمر صاعدة خطوة بعد أخرى مثل درجات السلم، وأنها بالتالي جاءت نتيجة تراكم الخبرات والمعارف التي ساهمت فيها الشعوب المختلفة على مر القرون - فهل هذا حقيقي؟
أول ما يمكن ملاحظته أن البشرية عمرها نحو مائتين ألف سنة، وأما الحضارة بمعناها الشائع المركب (المدن والمباني والكتابة والفنون والتكنولوجيا والنظم السياسية والإدارية، والقانونية والإجتماعية والدينية) فيقدر عمرها بنحو ستة آلاف سنة فقط، وأما التقدم العلمي التكنولوجي فيبدو وكأنه طفرة بدأت منذ ثلاثة قرون لا أكثر..
بمعنى آخر: لو تمكنا من أخذ عينات- صور ثابتة- لمراحل التطور الإنساني، فلن نجد فوارق كبيرة بين لقطة عمرها مائة ألف سنة وأخرى عمرها ثلاثين ألف سنة، ففي الحالتين نحن أمام ذات الإنسان الجوال المتعيش على الصيد والقنص وجمع الثمار، وإنما هناك طفرات محددة حدثت في أزمنة معينة (مثل اكتشاف النار ثم الزراعة ثم الكتابة ثم الحديد وغيرها) وهي التي غيرت شكل البشر والمجتمعات، وهذا حدث ببطء شديد، وبالطبع لم يحدث على التوازي بنفس السرعة في كل مكان..
ولو انتقلنا إلى مرحلة الحضارة، والتي ترتبط بنشأة الكتابة تحديدا، فيمكننا أخذ لقطة لزمن المصريين القدماء مثلا، ولقطة ثانية لعصر الفاطميين، أي على امتداد ثلاثة آلاف سنة، فهل سنجد فوارق كبيرة بين العصرين فيما يخص تكنولوجيا البناء أو استخدام الأدوات أو الطب أو الفنون أو حتى الأسلحة؟ على الأرجح لا، بل وربما ينحاز البعض إلى الزمن القديم فيراه أكثر تطورا - إذن فنحن لسنا أمام درجات سلم بحال من الأحوال..
ولو أننا تذكرنا مثال الفورة العقلية في العصر الذهبي للإغريق، وقارناه بالعقلية السائدة في أوروبا العصور الوسطى، فسنكتشف أيضا أن الحضارة لا تسير إلى الأمام دائما، فقد تتراجع العقول أحيانا وتضيع التكنولوجيا، وقد ينحط الناس إلى الخرافة والجهل بعد أن مروا بفترات من العلم والعقلانية، وقد تتسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية في تدمير مجتمعات وحرق كتب وقتل علماء وتدمير مراكز معرفية وفلسفية..
ولو نظرنا إلى النهضة العلمية الحديثة، بداية من التنوير في القرن السابع والثامن عشر ثم الثورة الصناعية في التاسع عشر وحتى ثورة الإتصالات التي نعيشها، فسيتوجب الإعتراف أن النهضة التي نعيشها اليوم هي نهضة أوروبية\أمريكية تحديدا، ليس فقط لأنها بدأت من أوروبا، ولكن لأن جميع الدول التي نجحت في أخذ بعض أدوات التقدم بعد ذلك، في آسيا مثلا، قد فعلت ذلك عن طريق واحد لا غير وهو التعلم المباشر واستلهام الفكر أو التكنولوجيا من الغرب - ولا يوجد استثناء واحد لبلد تقدم بشكل مستقل بدون الأخذ عن النهضة الأوروبية: اليابان الصين روسيا الهند تركيا..إلخ، كل تلك البلاد قرر حكامها- أو أُجبرها المستعمر - في لحظة ما بالقرن التاسع عشر أو العشرين أن تستورد الحضارة الغربية استيرادا، ولهذا حققت بعض النجاح، وبعضها تفوق على كثير من الدول الغربية ببعض النواحي..
إذن، فلو كانت الحضارة- كما يقولون- هي درجات سلم متصاعد لتوقعنا أن نرى بعض التدرج والإستمرارية والتناغم في ذلك الصعود، ولو كانت الحضارة - كما يقولون- هي عملية تراكم إنساني، لتوقعنا أن كل شعب يتمكن من التقدم عن طريق تطوير تراثه الخاص، ولكن هذا لا يحدث، فالحقيقة المزعجة لكل من يتفاخر بحضارته هي أن الحضارة الحديثة، كما تمتد جذورها من القرن الثامن عشر- هي طفرة غربية، ولا يمنعنا من الإعتراف بذلك إلى نزعة الكبر والإعتزاز الطبيعي لكل شخص بحضارة أجداده..
وهنا يجدر ملاحظة شيء آخر مزعج لمحبي الإنسانية والمساواة، وهي أن ليس كل الشعوب تسهم في الحضارة أصلا، وإنما هناك قبائل عديدة حوال العالم في الغابات والصحاري الرملية والجليدية لم يسهم أفرادها بشيء في مسيرة التقدم هذه، وإلى اليوم ربما مايزالوا يعيشون بنفس نمط حياتهم - في الملبس والطقوس والمعتقدات- كما كان الحال من عشرات الآلاف من السنين - وهذا لا يعني بالضرورة أنهم سيئون أو أقل سعادة، وإنما فقط أقل تقدما ومساهمة بالتقدم..
ولكن ألم يستفد الغرب من منجزات الحضارات الأخرى، مثل الإسلامية، كما يحلو لنا القول؟
نعم، يمكن القول أنهم استفادوا بالتراث الإسلامي وما نقله وطوره عن اليونانيين، ولكن الحقيقة أن ذلك التراث كان موجودا منذ البداية عند المسلمين، ومن قبله عند اليونانيين، وظل ذلك الحال لمئات السنين، فهنا يكون السؤال: ما هي الوصفة السحرية التي أضافتها أوروبا للمكون التراثي، ولم تكن متوفرة عند الآخرين، فجعلت الطفرة الصناعية والرأسمالية تحصل؟
أو لنسألها بصيغة أخرى : ما هو الخط المنطقي الذي يمكن أن يأخذ من كتابات أرسطو أو ابن سينا أو الفارابي، فيصل إلى صواريخ الفضاء والإنترنت ووتكنولوجيا النانو والسيارة ذاتية القيادة والذكاء الصناعي والخلايا الجذعية؟
نعم بالطبع في الماضي كان هناك ومضات معرفية مبهرة، لكنها جاءت نتيجة عبقرية شخصية أو حتى تخمين ذكي، ولكن المهم أنها لم تستمر ولم تتفاعل لتؤدي إلى النتائج المركبة التي نطلق عليها تكنولوجيا حديثة، ولهذا مثلا قال طاليس منذ زمن طويل أن الماء هو أصل الموجودات، وهو تخمين ذكي، ولكن مقولته لم تتحول إلى حقيقة علمية تفيد البشرية وإنما ذابت إلى جوار مقولات أخرى أقل علمية، وكذلك نجد أن ابن الهيثم مثلا استخدم المنهج العلمي التجريبي ببراعة، ولكن هذا لم يجعل المنهج يتم ترسيخه وتعميمه بعد موته - فيجب الحذر من الخلط بين الومضة المعرفية والنهضة الحضارية..
أما الحضارة فلا يصح القول أنها جاءت نتيجة تراكم معرفي، فنحن لم نجد هذا التراكم يحدث بالماضي، إذ أن القرون الوسطى لم تكن أفضل بكثير مما سبقها، بل وربما أسوأ في بعض الجوانب كما ذكرنا، بل إن النهضة الحديثة ولدت في ثلثمائة سنة فقط، بينما القدماء - الذين كان لديهم ذلك التراث وربما أفضل لم يصلنا - كان لديهم عشر أضعاف ذلك الزمن، وكان أمامهم كل التراث الذي يزعم البعض أنه أصل الحضارة، فلماذا استمروا في الدوران ولم يجدوا درجات السلم الصاعدة نحو الفضاء؟
حديث التراكم هنا يذكرني بنكتة قديمة عن الصحافي الذي كان يقيم حوارا مع مليونير كبير بدأ من الصفر، فسأله بشغف: ما سر ثروتك الكبيرة سيدي؟ فتنحنح المليونير وأجاب: إنها قصة طويلة يا ولدي، سأحكيها لك، فقد كنت معدما فقيرا لا أملك في جيبي سوى سنتا واحدا، فاشتريت به تفاحة وقمت بغسلها جيدا حتى صارت لامعة وبعتها بسنتين، اشتريت بهما تفاحتين وقمت بغسلهما جيدا وبعتهما بأربعة سنتان، اشتريت بهم أربع تفاحات وقمت بغسلها جيدا لأبيعهما بثمانية سنتات.. وفي تلك الأثناء توفى عمي سميث وترك لي ثورته البالغة خمسين مليون دولار!
أما عن سؤال "لماذا تقدمت أوروبا قبل أمم أخرى ربما كانت لديها إمكانيات مشابهة بالقرن السابع والثامن عشر (الصين مثلا)؟"، فهو سؤال ليس سهلا، ويتناول ظاهرة معروفة تسمى بالتباعد الأوروبي - مصطلح صكه صمويل هنتنغتون وصار عنوانا لكتاب لكينيث بوميرانز- أو المعجزة الأوروبية - وهو عنوان كتاب لإيريك جونز- والكتابات يناقشان نفس السؤال..
يحتمل وجود عوامل عديدة: فهل السر يكمن في الإستعمار مثلا ونهب خيرات الشعوب؟ هذا يجعلنا نخلط السبب بالنتيجة، فالحقيقة أنه لولا التقدم التكنولوجي لما تمكنت أوروبا من استعمار العالم القديم، فهل السر في الإختراع العبقري المسمى المؤسسات التي تضمن استمرارية العمل بشكل يفوق عمر الأفراد؟ هل السر في الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم أن التقدم الفكري جاء نتيجة للتقدم الإقتصادي الذي أدى لارتفاع مستوى المعيشة؟ هل السبب هي اختراعات معينة مثل البوصلة التي ساعدت في اكتشاف العالم الجديد، أو السكك الحديدية التي جعلت نقل البضائع أسهل وأسرع، أو البارود الذي مكنهم من النصر في الحروب، أو الطباعة التي نشرت المعرفة بشكل غير مسبوق؟ لا شك أن هذه الإختراعات ساعدت على التقدم، ولكن يظل السؤال : ما الذي جعل تلك الإختراعات تظهر في أوروبا وفي تلك الفترة تحديدا؟ هل هي مجرد صدف سعيدة أم أن تلك المخترعات هي نتيجة للنهضة قبل أن تكون سببها؟ وحين ظهرت، فما الذي لم يجعلها مجرد ومضة أخرى مثل ومضات الماضي تظهر ثم تختفي؟
لنلاحظ أولا أنه لو تصورنا الحضارة كتراكم معرفي فلن يكون للسؤال أي معنى أصلا، وإنما هنا يكون التقدم مسألة طبيعية تحصل مع مرور الزمن، وهو تصور خاطئ تماما كما رأينا، مما يجعل السؤال "لماذا؟" هو سؤال وجيه يستحق البحث - ووجاهة السؤال هي ما يعنيني إثباته هنا، بأكثر مما تهمني إجابته..
لا شك أن الجواب صعب، وأن عوامل تقدم أوروبا مركبة ومتداخلة وبعضها قد لا يخطر بالبال، فعلى سبيل المثال هناك عامل محوري لقيام الثورة الصناعية وهو الفحم، فربما لولا توفره طبيعيا بإنجلترا لما حدثت النهضة التكنولوجية - ولكن ألا يوجد الفحم في الصين مثلا؟ بلى، ولكنه موجود في المناطق الشمالية، بينما أكثر المدن آنذاك كانت مركزة في الجنوب - لماذا أكثر المدن مركزة بالجنوب؟ سبب ذلك هو الهجمات المغولية بالقرن الثالث عشر والتي دمرت الشمال وأزاحت المدنية الصينية جنوبا - فهل لولا هجمات المغول كان يمكن أن نشهد الرأسمالية الحديثة تظهر بالصين قبل أوروبا ويتغير وجه التاريخ كله؟ من يدري؟
لكن بالنهاية الفحم هو أداة وليس سببا، وقد كان موجودا على الدوام وهو لا يكفي وحده لصنع النهضة، وكذلك الحال مع بقية الموارد وأيضا مع التراث ومع البشر، فما الجديد هنا؟
ربما الجواب يكمن في تضافر العوامل المذكورة هنا، فيمكن القول أن الإتحاد السياسي والمخترعات العلمية وانتشار المعرفة واستكشاف العالم الجديد والرفاهة الإقتصادية هي كلها عوامل ساعدت بعضها البعض، فصنعت تلك الخلطة التي نسميها تقدما حضاريا..
وأما الجانب الفكري للمسألة، والذي أظن أنه حجر الأساس لتلك النهضة، فهو ما يمكن أن نسميه : الغربلة..
الملاحظ أن النهضة اقترنت ليس فقط بتبني أفكار معينة، والتي معظمها وجد قبلا بالتراث، فربما لا جديد تحت الشمس، وإنما الأخطر بنظري أنها اقترنت باستبعاد أفكار معينة، وتحديدا الخرافات والأساطير التي كانت تشكل الجانب الأكبر من الفكر الإنساني - وإن لم نقل أن البلاد التي تقدمت قد نبذت الخرافات بالكامل، فيمكن القول أنها نجحت في تنحيتها جانبا بحيث تظل معتقدا مسالما شخصيا لا يؤثر كثيرا على سير ماكينات السياسية والإقتصاد والتصنيع وحتى الفكر والثقافة، والتي تميزت بسمة العلمانية أي إدارة الأمور وفقا لقواعد نفعية منطقية بعيدا عن المقدسات والأهواء والأمزجة..
التفكير العلمي هو الذي يجعل البشر يفسرون الأمور بشكل طبيعي لا غيبي، فيبحثون عن كيفية حدوث الأشياء بدلا من نسبتها إلى قوى خارقة خفية، وهو يجعلهم متقيدين بالواقع يعرفون الحق ليس بالوحي أو بالنصوص أو حتى بالتفلسف المجرد وإنما بالحس والتجربة التي يقودها العقل النفعي، وهذا بالتالي يجعلهم قادرين على التعلم من أخطائهم، فيدركون أن الهزيمة ليس سببها لعنة إلهية أو خطايا جنسية وإنما سببها قصور في جوانب معينة يمكن معالجتها، ثم أن هذا التفكير العلمي يجعلهم متحررين من أي مفاهيم مقدسة بحيث يكونوا قادرين على تغيير نمط حياتهم بمرونة بما يضمن لهم كفاءة أفضل، كما يجعلهم راغبين في الإستفادة من كل التجارب والخبرات المتاحة بغض النظر عن مصدرها، فيعمل الجميع من كل الأجناس والمعتقدات داخل المجتمع الواحد، ويكون المعيار الأوحد هنا هو النتائج العملية على الأرض..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق