الجمعة، 1 مارس 2019

من صنع الإسلام؟




كان يا ما كان تاجر أربعيني متواضع الحال خرج من كهف في صحراء الجزيرة العربية فقرر أن يغير العالم ؛ بدأ دعوة وجمع أتباعا وتحمل الإضطهاد وهاجر وأسس دولة وخلافة ووضع تشريعا وجنّد جيوشا انطلقت تغزو في ثلاث قارات لتزيح أكبر إمبراطوريتين في زمنه.

ما رأيك بتلك القصة؟ لعلها مشوقة تصلح لفيلم هوليوودي باهر، ولكن البعض يصدق كونها حقيقة كما يصدقون شق موسى للبحر أو إحياء يسوع للموتى، حتى أنك كثيرا ما تسمع وصفا للنبي محمد بأنه، وإن لم يكن نبيا من الله، فهو عبقري وداهية سياسي اجتماعي قانوني عسكري لا مثيل له في التاريخ الإنساني كله - كيف لا وقد نجح في توحيد العرب جميعا على دينه وتشريعه الذي اخترعه بمفرده؟ مع ملاحظة أن ذلك الكلام لا يردده مسلمون فقط بل مسيحيون وحتى لادينيون.

فهل هذا ما حدث فعلا، أم أن تفحص المسألة يعطينا صورة مغايرة - وأكثر تعقيدا- من تلك القصة الهوليوودية المبهرة والمبسطة حتى الإختزال؟

وكيف إذن نشأ وظهر وانتشر الإسلام إن لم يكن نتيجة لفكر ودعوة وجهود فرد اسمه محمد؟

هنا لن نزعم أننا سنقدم جوابا كاملا يقينيا على ذلك السؤال الكبير، وإنما سنسرد - في نقاط - ما نراه أسئلة مفتاحية ستساعد على إدراك أبعاد السؤال بشكل واقعي يجعلنا ننظر إلى الإسلام ليس كـ"معجزة قام بها شخص" وإنما كحدث تاريخي طبيعي له أبعاد اجتماعية سياسية اقتصادية ثقافية وحتى مناخية.

- كيف تنشأ الأديان؟
يعلمنا التاريخ أن التحولات الكبرى لا تنشأ بين يوم وليلة، ولا تنجح حصرا بسبب عبقرية فرد، وإنما تسبقها أولا مقدمات تستدعيها وتمهد الطريق لها، ثم تتبناها جماعات من البشر وتسعى لها، ثم تساعدها ظروف وعوامل مختلفة تؤدي في النهاية إلى نجاحها، الأمر الذي يتم على مدار عقود وأحيانا قرون.

ولنأخذ أشهر مثالين وأقربهما إلى موضوعنا: اليهودية والمسيحية.
حتى قرنين أو ثلاثة مضوا كان الغرب يتعامل مع الكتاب المقدس على أنه تأريخ دقيق، وكان ذلك يشمل المختصين في الأديان حتى العلمانيون اللادينيون، حيث كانوا يرفضون جانب المعجزة في التوراة ولكن يسلمون بالجانب التاريخي، ثم تغير الوضع تماما مع تطور علوم دراسة الكتاب ومع المكتشفات الأركيولوجية (الآثار) في الشرق الأوسط، حيث سقطت الكثير من المسلمات القديمة تباعا.

واليوم يعرف أي مطلع على الدراسات الدينية والتاريخية والآثارية أن القصص التوراتي أكثره أساطير منقولة عن حضارات العراق ومصر، وأن شخصيات مثل نوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط هم أقرب إلى آباء أسطوريين أو رموز دينية لا تعبر عن حقائق تاريخية وقعت بالفعل، وكذلك الحال مع قصة موسى وفرعون وخروج اليهود من مصر فهي خرافة لم تحدث، وحتى مملكة داود وسليمان المجيدة لم يعثر لها المنقبون على أثر وإنما وجدوا بدلا منها آثار لشعوب وممالك أخرى.

ومع تلك الصدمات تبين أن صانع اليهودية ليس موسى، وإنما هم جماعات من الكهنة والكتبة والإداريين والحكام الذين أرادوا صنع أساس ديني لتحالف سياسي بين مجموعة قبائل عبرانية وكنعانية في الألفية الأولى قبل الميلاد، ثم نسبوها إلى بطل أسطوري قومي، وجاءت ما تسمى "الفرضية الوثائقية" لتقترح وجود عدة مصادر كتبت التوراة على مدار قرون بعد زمن موسى المزعوم بكثير.

والحال لا يختلف كثيرا عند المسيحية، فمع وجود شواهد طفيفة تؤكد الوجود التاريخي ليسوع، إلا أنه لا يمكن الوثوق بما ورد عنه في الأناجيل، والتي صار ينظر لها كأعمال دينية لا تاريخية، وأما من صنع العقيدة والتراث المسيحي الذي وصل لنا فهم ممثلو الكنائس الأولى والذين اختاروا الأناجيل التي ينبغي قبولها وأشرفوا على تنقيح الكتاب المقدس وصياغة العقيدة والطقوس المسيحية تحت إشراف الأباطرة الرومان لاحقا.

والخلاصة أن الدين، مثل أي تحول عقائدي أو اجتماعي، هو أكبر من أن يصنعه فرد أو حتى جماعة محدودة، وإنما هو تغيير تقوده تقلبات اجتماعية وتحالفات سياسية وتشرف عليه جماعات من ملوك وكتبة ولاهوتيين (فقهاء دين).

باختصار الأديان - مثل الكائنات- لم تُخلق وإنما تتطور، ولا شك أن هذا سينطبق على الإسلام كما ينطبق على غيره.


- هل نشأ الإسلام في مكة؟
ويحتمل أن أسطورة الفيل تم اختراعها خصيصا للإعلاء من شأن مدينة مكة وإظهارها كمدينة الله المقدسة.

مما يذكرنا بحقيقة أخرى صادمة وهي أن تلك المدينة، التي يخبرنا التراث الإسلامي أنها مزار إبراهيم وموضع أقدم بيت عبادة وضع للناس، وأنها كانت مدينة تجارية دينية مهمة وقبلة للعرب قبيل الدعوة الإسلامية، لكنها في الحقيقة لم تذكر في أي مصدر تاريخي قبل الإسلام، وذلك رغم أن الكتابات القديمة (الأشورية والفارسية واليونانية والرومانية وغيرها) قد تحدثت عن الجزيرة العربية وذكرت مدنها بالتفصيل، حتى أن مدينة مثل يثرب لها سجل تاريخي قديم، وكذلك تيماء والطائف والمدن العربية الأخرى حول مكة، ولكن مكة نفسها لا ذكر لها - أما أول مصدر تاريخي يذكر مكة فيعود إلى عام 740 م، ويبدو أن مكانها هو العراق وليس الحجاز (راجع كتاب "الهاجرية" المذكور، وأيضا كتاب المؤرخ توم هولاند "تحت ظل السيف"، والفيلم "الإسلام، القصة التي لم تروى"، وكذلك كتاب رأفت عماري "الإسلام في ضوء التاريخ").

بل إن وجود مكة المزعوم على طرق التجارة هو أيضا أمر مشكوك فيه، فبالإضافة لكونها لم تذكر بحرف في مدونات الشعوب التي يفترض أنهم شركاؤها التجاريون (مثل البيزنطيين والفرس والأحباش)، فهي أيضا مجرد قرية قاحلة لا تحتوي زرعا ولا تنتج شيئا (بالمقارنة مع الطائف مثلا، القريبة منها، والتي تحتوي مزروعات وثمار بالإضافة إلى واحة مياه وبيت مقدس يطوف الناس حوله، ومن هنا جاء اسمها)، ويحتاج المارة إلى العدول عن الطريق التجاري نحو مائة ميل ليصلوا إلى مكة، مما لا يجعلها محطة مغرية للتوقف أو موقعا مناسبا لإقامة أي مركز تجاري أو حضاري أو سياسي فيها، والأهم من ذلك كله أن السجلات تثبت أن التجارة البرية كانت توقفت في الجزيرة العربية منذ زمن طويل، وحلت محلها التجارة البحرية والتي كان يقودها الأحباش في البحر الأحمر (راجع كتاب "التجارة المكية وظهور الإسلام" لباتريشيا كرون)، مما يثير الشك في مسألة مركزية مكة وقريش قبل الإسلام، ويوحي بأنها مجرد إسقاطات متأخرة.

ولو رجعنا إلى الشواهد التاريخية والآثارية لوجدنا أن مكة ليس لها سجل أثري يذكر (راجع كتاب رأفت عماري المذكور) بل إن أقدم آثارها تعود إلى القرن التاسع أو العاشر للميلاد (راجع كتاب "الجغرافيا القرآنية" لدان غيبسون)، حتى أنه في صفحة ويكيبيديا بعنوان "المدن الأثرية في السعودية" تجد مدنا مثل تيماء ودومة الجندل وقرية الفاو، لكننا لا نجد مكة.

بل يرى البعض أن القرآن نفسه ينفي أن تكون مكة هي مهد الدعوة الأولى، حيث يزخر بآيات (منها ما هو في سور مكية لا مدنية) تخاطب الخصوم "الكفار" فتحدثهم عن المزروعات الوفيرة حولهم وثمار الزيتون والرمان والأعناب والنخيل والحقول المتجاورة تسقيها الأمطر وترعى فيها الأنعام، وهو ما لا يبدو متسقا بالمرة مع أرض مكة البركانية القاحلة والتي لا تصلح للزراعة (وعلى سبيل المثال فالزيتون مثلا - كما أشار توم هولاند- لا ينمو في تلك المنطقة، وإنما نجده في شمال الجزيرة قرب فلسطين) ؛ ونفس الشيء نراه في حديث القرآن المتكرر عن تجارة البحر والسفن الضخمة، وعن ظواهر بعيدة عن مكة مثل التقاء الماء العذب والبارد وخروج اللؤلؤ والمرجان من البحار، وحتى الثلوج التي تسقط على الأرض، مما يبدو متسقا أكثر مع بيئة شمال الجزيرة العربية.

يضاف إلى ذلك تركيز القرآن على القصص والمقدسات المرتبطة بفلسطين والقدس، والتي تحتوي منطقة "بكة" (المذكورة في المزامير كمكان لطقوس تشبه الحج) وفيها منطقة الخليل التي تسمى "مقام إبراهيم"، وقريبة منها صحراء بئر سبع التي طردت إليها هاجر حسب الأسطورة التوراتية، وليس مكة التي تبعد عن ذلك المكان بأكثر من ألف ميل جنوبا.

وقبل ذلك يخاطب القرآن خصومه بأنهم قريبون جغرافيا من ديار قوم لوط الهالكة، حيث يذكرهم أنهم "يمرون عليها مصبحين وبالليل"، ويصفها بأنها "بسبيل مقيم"، والمعروف أن المنطقة المرتبطة بقوم لوط (سدوم وعمورة) تقع عند البحر الميت (الأردن الحالية)، وليس عند مكة.

كما يكرر القرآن الحديث عن البيوت الصخرية المهجورة، والتي ينسبها لثمود، ويخاطب خصومه بأنهم "سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم"، وغالبا المقصود هي مباني الأنباط الشهيرة جنوب الأردن وصولا إلى منطقة العلا (مدائن صالح)، والتي نسبها القدماء إلى قوم ثمود الهالكين.

ثم أنه يشير إلى المعارك بين الفرس والروم على أنها "في أدنى الأرض" أي أقربها، علما بأن خطوط الصراع كانت قرب الشام، بعيدا تماما عن مكة.

- أين نشأ الإسلام إذن؟

تلك الشواهد وغيرها جعلت بعض الباحثين (منهم باتريشيا كرون وتوم هولاند ودان غيبسون في المصادر المذكورة) يقولون أن الإسلام لم ينشأ بمكة، وإنما في منطقة أخرى أكثر شمالا، حددها غيبسون بأنها البتراء، العاصمة القديمة للأنباط، ففي كتابه "الجغرافيا القرآنية" يقول بأن وصف السيرة لمكة لا ينطبق على مكة الحالية وإنما على البتراء فهي أم القرى ومهد الرسالة المحمدية، وبالفعل، نجد أن الآلهة الوثنية المذكورة في القرآن (اللات والعزى ومناة) كانت معبودة في البتراء، وهناك نجد آثار لكعبات وأصنام مهدمة، بل ربما وجد حرم قديم مهجور.

ويرى غيبسون أن مدينة الإسلام المقدسة تم نقلها من الشمال إلى الجنوب في إطار الصراعات بين عبد الملك ابن مروان وعبد الله ابن الزبير، حيث تهدمت الكعبة المقدسة في البتراء، فتم نقل الحجر الأسود، ومعه القبلة، إلى مكة الجنوبية بعيدا عن النفوذ الشامي، بينما يرى توم هولاند أن إبعاد نشأة الإسلام عن شمال الجزيرة إلى قلب الصحراء العربية جاء لجعله "دينا عربيا" ومحاولة تجنب شبهة تأثره باليهودية والنصرانية في شمال الجزيرة.

مسألة وجود "كعبة أخرى شمالية" سابقة قد تكون حقيقية وربما نلمح صداها في المصادر الإسلامية نفسها والتي تخبرنا أن كعبة مكة كانت تسمى "الكعبة الشامية"، وهو أمر مدهش لو تذكرنا البُعد المكاني الكبير بين مكة والشام.

كما تساند ذلك عدة حقائق أركيولوجية (آثارية)، بعضها أيضا صادم، منها أن المساجد الأولى في الإسلام لا تشير قبلاتها إلى مكة الحالية وإنما إلى مكان أكثر شمالا بكثير، ينطبق هذا على مساجد في العراق وفي مصر وفي الأردن، وهو ليس مجرد خطأ في البناء وإنما هناك شواهد من الكتابات القديمة (إسلامية ومسيحية) تقطع بأن العرب الغزاة لم يكونوا يصلون نحو مكة وإنما إلى بيت مقدس آخر في شمال الجزيرة - ويبدو أنه في زمن الوليد ابن عبد الملك قام الأمويون بتعديلات في المساجد الرئيسية وجعلوها تواجه مكة الحالية (راجع كتاب "الهاجرية" وكتاب "الجغرافيا القرآنية" المذكورين).

قرينة أخرى مشوقة هي مسألة الخط الذي كتب به القرآن، فنعلم أن اللغة العربية في الأصل لم تكن لها لغة كتابة خاصة بها، فكان العرب يكتبون بعدة خطوط تابعة للشعوب المجاورة لهم، وأهم تلك الخطوط نوعان مختلفان للغاية : الخط المسند (والذي كان مستخدما في الجنوب)، والخط النبطي (الذي كان مستخدما في الشمال)، ولو رجعنا إلى الخط الذي كتب به القرآن لوجدنا أنه يمثل فرع الكتابة الذي تطور عن الخط النبطي الشمالي وتحول إلى الأبجدية العربية التي نعرفها اليوم (وأما الخط المسند الجنوبي فقد انقرض بعد سيادة الإسلام مباشرة)، مما يوحي بأن القرآن تم تدوينه في الشمال لا الجنوب.

فإذا كان الإسلام لم ينشأ في المكان الذي يفترض أنه نشأ فيه، ألا يعني ذلك وجود درجة ضخمة من التزوير التاريخي في السيرة التي وصلتنا عن تلك النشأة؟


- هل سيرة محمد التي وصلتنا دقيقة تاريخيا؟
أو ربما يمكننا طرح سؤال أكثر راديكالية: هل محمد شخصية حقيقية؟

حتى زمن قريب نسبيا كان الدارسون، ومنهم المستشرقون المشهورون كإرنست رينان وويليام موير وغيرهما، يعتقدون أننا نعرف كل صغيرة وكبيرة عن نبي الإسلام، وذلك رغم ذكر البعض (مثل العلامة جولتسيهر في مقدمة كتابه المهم "دراسات إسلامية") أن الأحاديث لا يمكن إثبات صحة نسبتها إلى محمد، ولكن حتى هؤلاء تعاملوا غالبا مع السيرة كأنها أمر مسلم بحقيقته - ولكن الوضع تغير مع الكتابات الحديثة.

في الواقع ليس لدينا شيء مكتوب بيد النبي أو أي من الصحابة، كما ليس هناك أثر واحد يعود إلى أي منهم (فالمتعلقات الموجودة ببعض المتاحف هي تزويرات لم تثبت صحتها تحت الفحص، وكذلك الحال فيما يخص رسائل محمد المزعومة إلى كسرى وهرقل)، وأما أقدم مخطوطة قرآنية فترجع إلى زمن أسرة الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان أوائل القرن الثامن للميلاد.

هذا دفع بعض الباحثين للقول أنه لا يوجد أي دليل ملموس على وجود دين يسمّى الإسلام قبل أواخر القرن السابع للميلاد (راجع مثلا كتاب "الهاجرية" لباتريشيا كرون ومايكل كوك، ويتفق معه كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر" لسليمان بشير)، بينما ذهب آخرون إلى إنكار شخصية محمد بالمطلق والقول أنها - مثل أكثر الأنبياء القدامى- شخصية وهمية مخترعة (راجع مثلا كتاب "مفترق طرق الإسلام" ليهودا نيفو وجوديث كورين، وكتاب "هل كان محمد موجودا؟" لروبرت سبنسر وكذلك مقال لنادر قريظ عن الباحث محمد كاليش بعنوان "إسلام بدون محمد").

وأما السيرة الأقدم المتوفرة لدينا لمحمد فقد كتبها ابن إسحاق أوائل العصر العباسي (وقيل أنه كتبها بطلب من الخليفة)، لكن نص تلك السيرة مفقود، وما لدينا هو سيرة ابن هشام المنقولة عن ابن إسحاق، معترفا - ابن هشام- في مقدمته بأنه قام بحذف أمور كثيرة لأنها تسيء إلى البعض.

وحتى ابن إسحاق نفسه هو شخصية غامضة بالنسبة لنا ولا يبدو أنه كان موثوقا به حتى من قبل معاصريه من المسلمين، فقد وصفه الإمام مالك بأنه "دجال من الدجاجلة" بينما يرفض أهل الحديث قبول رواياته (طبقا لـ"علم" الجرح والتعديل)، وبعد سيرة ابن إسحاق\ابن هشام جاءت عدة كتب مثل المغازي للواقدي والطبقات لابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري، هذا يعني أن أقدم الكتابات الإسلامية عن محمد وسيرته ودينه كتبت في القرن التاسع والعاشر للميلاد، بعد الأحداث التي يفترض أنها تصفها بأكثر من قرنين - والجدير بالذكر أن كتابات السيرة بدأت أصلا بما يسمى روايات المغازي القتالية، والتي انتشرت بين أهالي المدينة، ثم توسعت المغازي لاحقا لتشمل سائر جوانب حياة محمد (راجع كتاب سليمان بشير المذكور).

وقد لاحظ الباحثون منذ فترة عدة أمور لافتة في تلك السير: منها أنها تزداد تعقيدا وتمتلئ أكثر بالأحداث كلما ابتعد الزمن، أي أن السير المبكرة تكون أكثر اختصارا، بينما تزخر المتأخرة بالحكايات والتفاصيل، ولاحظوا كذلك أن الروايات المبكرة لا تهتم بمسألة الإسناد والعنعنة، بينما الروايات المتأخرة زمنيا تمتلئ بالإسنادات المتقنة (كتاب "الهاجرية") وهي ملاحظات لها دلالة خطيرة ولا شك حيث توحي أن المتأخرين أضافوا تفاصيل واخترعوا إسنادات للصحابة والرسول، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على مصداقية الرواية الإسلامية ككل.

والأهم أن كثير من حكايات السيرة تمتلئ بالمبالغات والأمور غير المنطقية من معجزات وغيره، بل وكثير من الأحداث التي نعتبرها بديهية في حياة محمد نجد أمثالها في التراث الديني السابق، ففي كتاب "اعترافات القديس أوغسطينوس" (القرن الخامس للميلاد) نقرأ أن القديس كان معتكفا يناجي الله فسمع صوتا خفيا- لا صوت صبي ولا فتاة- يأمره بالقراءة ويكررها (والمقصود اقرأ من الكتاب المقدس) مما يذكرنا بقصة الوحي المحمدي ، وفي سيرة قديس آخر هو فيلكس النولي نجد أنه حين هرب من مضطهديه اختبأ في كهف فقام عنكبوت بنسج خيوطه خارجه وقامت حمامة بوضع بيضها، وهي معجزة من الله ليخفيه عن المطاردين، وهو مشهد مماثل تماما لمشهد اختباء محمد في الغار هربا من مطاردة قريش، ولو تذكرنا أن ابن إسحاق- كاتب السيرة- من أصول مسيحية، وأنه بدأ سيرته محاكيا منهج الأناجيل تجاه يسوع، فابتدأ بذكر نسب محمد وصولا إلى آدم، لبدت لنا المسألة أكثر إثارة للشك، ليس في تلك القصتين فحسب وإنما في مجمل السيرة.

هذا ونجد بعض مشاهد السيرة الشهيرة مفتقرة إلى أقل سند تاريخي بل هناك ما يناقضها، وسنكتفي بمثال واحد هي قصة الفيل الشهيرة: فالسورة القرآنية المعروفة لا تحكي أي تفاصيل ولا تذكر الكعبة أو مكة أو الحبشة من قريب أو بعيد، وأما من سرد القصة فهي روايات السيرة، ولكن من المصادر التاريخية الأخرى (غير الإسلامية) نكتشف عدة أمور: منها أن أبرهة قام بعدة غزوات عاد منها سالما، إلا أنه لم يقترب من مكان مكة، ولم تذكر المدينة بحرف في منقوشاته المدونة، والأهم أن الرجل مات قبل عام الفيل المزعوم (570م) بفترة، أضف لذلك عدة استحالات منطقية لدور الفيل في الموضوع، منها أنه كائن غير عملي لتلك المهمة، فهو لا يستطيع السير في الصحراء بسهولة، كما أنه يحتاج إلى كميات مهولة من الطعام والماء العزيز جدا في تلك البيئة، ناهيك عن أن الفيل الأفريقي - بعكس قرينه الآسيوي- لا يمكن ترويضه ولا يستخدم في المهام العسكرية أصلا، وكما لك أن تتوقع فتلك القصة غير مذكورة في أي مصادر تاريخية معاصرة، مما يوحي بأننا أمام أسطورة دينية بحتة، لاسيما وأن لها متشابهات في التراث المسيحي اليهودي (مثل قصة حصار الأشوريين للقدس وتدخل ملائكة الله لقتل الجيش المحاصر والمذكورة في سفر الملوك الثاني) الأمر الذي يفتح الباب للتساؤل عما يحتمل أن السيرة احتوته من مبالغات أو تلفيقات أخرى.

- ماذا تقول المصادر غير الإسلامية؟

إن ظننت أن المقال يحاول إنكار المصادر الإسلامية جملة وتفصيلا، أو يسعى لإنكار وجود محمد أو يحاول إهمال دوره في الحركة التي ستصبح إسلاما، فربما لم نوضح المسألة كما يجب، فليس الغرض تكذيب كل التاريخ أو إلغاء دور محمد ورفاقه، وإنما المطلوب فقط هو تمحيص ما وصلنا مع توسيع نطاق الفهم.

البحث التاريخي يقوم على مقاييس معينة تمكننا من معرفة الراوية الصحيحة من الخاطئة، فمثلا قصص الخوارق يمكن استبعادها من قبل كل عقلاني، وهناك شروط للروايات القوية التي يمكننا تصديقها (احتمالا لا يقينا)، منها أن تكون مبكرة زمنيا، ومنها أن تكون مذكورة في أكثر من مصدر مستقل، ومنها أن تتفق مع السياق التاريخي العام للأحداث والآثار، ومنها أن تكون غير متفقة مع عقيدة الكاتب (مما يستبعد معه أن تكون بروباغاندا دينية).. مثل تلك المقاييس يستخدمها علماء الكتاب المقدس لفحص التوراة وكذلك الأناجيل والتي هي روايات تحكي سيرة يسوع حصريا، قد تصيب وتخطئ، مما يجعلنا محتاجين إلى أدوات منهجية تساعدنا على معرفة الصادق من الكاذب في تلك الروايات.. وبالطبع هذا كله لا ينتج يقينا، فالتاريخ ليس علما جامدا كالرياضيات، وإنما يظل لكل باحث تقييمه الخاص للأمور.

حين تخامرنا الشكوك في دقة المصادر الإسلامية فقد نلجأ لغيرها، ليس فقط المصادر الآثارية (كالمنقوشات والعملات) وإنما المصادر الأجنبية المسيحية واليهودية التي كتبت في تلك الفترة لنفحص ما الذي قالته عن العرب، غزواتهم ودينهم؛ هذا لا يعني أن المصادر الأجنبية منزهة وإنما الباحث التاريخي يهتم بجمع وتمحيص كل الأدلة المتاحة ويعتمد على مناهج معينة لغربلتها وانتقاء الأحداث التي تبدو أكثر مصداقية واتساقا مع الواقع ومع الشهادات الأخرى.

هذا مع ملاحظة أن تسمية المصادر الإسلامية أنها "داخلية" بينما المصادر الأجنبية "خارجية" - وهي التسميات الشائعة في الكتابات البحثية عن الإسلام المبكر، هي تسمية قد لا تكون دقيقة تماما، حيث أن المصادر الإسلامية كثيرا ما كانت تدون في مكان بعيد عن الأحداث التي تصفها (حيث نجد مثلا كاتبا مسلما في العراق يحكي عن تاريخ مكة والمدينة منذ قرنين)، وعلى الجانب الآخر قد تكون المصادر المسيحية أقرب إلى زمان بل ومكان الأحداث التي تحكيها (مثل كتابات المسيحيين في سوريا والعراق عن الفتوحات العربية في تلك الأماكن، أحيانا بشكل معاصر للغزوات).

وهناك من الباحثين من اهتم بجمع وفحص تلك المصادر الأجنبية (راجع كتاب "الإسلام كما رآه الآخرون" لروبرت هويلاند، وأيضا كتاب "الهاجرية")، وبعضها بالفعل تحدث - بزمن مبكر جدا- عن نبي ظهر بين السراسنة (العرب) وأنه جمع أتباعا ونشر دينه بالسيف، وبعض تلك المصادر تذكره بالإسم، ومن تلك الشهادات يمكن القول أن محمد - النبي والقائد- هو شخصية تاريخية تماما، وليس كما يحاول البعض القول أنه شخصية مخترعة، كما أن له دورا ما في النشأة الأولى للإسلام.

هذا لا يعني أن تلك المصادر الأجنبية تدعم الرواية الإسلامية التقليدية المشهورة، ففيها ما يخالفها تماما، من ذلك قول البعض أن النبي تحالف مع اليهود لغزو الأرض المقدسة، كما هناك مصادر أخرى تصف العرب الغزاة بأنهم قوم لا دين لهم، وأنهم دخلوا القدس مع اليهود (ربما حين كان محمد مايزال حيا) وبدأوا في بناء هيكلهم الخاص، ثم سرعان ما دب الخلاف بين الفريقين وقام العرب بطرد اليهود من فلسطين، كما هناك روايات تتحدث لاحقا عن حاكم الشام معاوية وكأنه مسيحي، مما يوحي بصورة مغايرة للسيرة الرسمية المألوفة.

كثير من الباحثين قاموا بالتشكيك في مصداقية المصادر الإسلامية وحاولوا إعادة رسم سيناريو ماذا حصل في بدايات الإسلام اعتمادا على مصادر أخرى أجنبية أو أركيولوجية، منهم (على سبيل المثال) جون فانسبورو (كتاب "الوسط المذهبي") وباتريشيا كرون (كتاب "التجارة المكية وظهور الإسلام" و"الهاجرية") ويهودا نيفو (كتاب "مفترق طرق الإسلام") وكريستوف لكسنبرغ (اسم مستعار، كتاب "قراءة سريانية أرامية للقرآن") وكارل هينز أوليغ وغنتر لولنغ وفلكور بوب وغيرهم (كتاب "الأصول الخفية للإسلام")، (ومن العرب سليمان بشير (كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر") ونادر قريظ (مثلا مقال "البدايات المظلمة للإسلام") وغيرهم.

- ماذا كان دور اليهود في الدعوة؟
من تلك الأخلاط يمكننا العثور على نقاط معينة نجد فيها اتفاق بين القرآن والروايات الإسلامية والمسيحية والمكتشفات الأثرية، من ذلك ما ورد عن تحالف محمد مع اليهود، فنقرأ في السيرة عما يسمى "وثيقة المدينة" وهي حلف سياسي أقامه محمد مع اليهود في أول الهجرة، كما نقرأ في كتابات الأرمني سيبيوس (القرن السابع) عن أن ذلك الحلف (بين محمد واليهود) قد قام على أساس بنوة إبراهيم ووحدانية الله، فقد انسحب اليهود من أمام مسيحيي بيزنطة وانطلقوا إلى الصحراء محاولين إقناع العرب بقضيتهم، وهنا ظهر دور محمد، كما يكمل سيبيوس أنهم جميعا قد شكلوا جيشا نجح في غزو الأراضي المقدسة فلسطين، ولو رجعنا مرة أخرى إلى المصادر الإسلامية فسنجد روايات غريبة تقول بأن اليهود قاتلوا مع محمد وأنه قسم لهم في الغنيمة، ولاحقا نقرأ أن عمر ابن الخطاب حين دخل فلسطين عرف مكان المسجد الأقصى بمساعدة اليهودي كعب الأحبار.

بل إن عمر يوصف في مصادر يهودية بأنه "صديق إسرائيل"، وفي المصادر الإسلامية أنه كان يقرأ في التوراة (حتى نهاه النبي مغاضبا)، ثم أننا نجد إشارة ملفتة جدا في لقب عمر"الفاروق" والذي يعني "المُخَلَص" باللغة الأرامية، وهو لقب للمسيح المنتظر، وتخبرنا المصادر الإسلامية أن من أطلق على عمر ذلك اللقب هم أهل الكتاب (كتاب "الهاجرية" و"مقدمة في التاريخ الآخر" المذكورين) ثم نتذكر أن الخليفة دخل القدس راكبا حمار وهي علامة مميزة للمسيح الذي كان ينتظره اليهود، وهنا نتذكر أن أقدم مصدر يتحدث عن محمد (والمسمى "تعاليم يعقوب") يتحدث عن نبي ظهر بين العرب مبشرا بظهور المسيح، وأن ذلك الأمر قد أسعد اليهود وأخاف المسيحيين.

هذا ونجد بالفعل عملة أثرية مبكرة تذكر اسم "محمد" ومنقوش عليها علامة الشمعدان اليهودي، ومن الجمع بين تلك القرائن يمكن القول بثقة أن الحركة الأولى للإسلام قامت على تحالف سياسي وعسكري بين محمد واليهود، ولا ندري متى انكسر هذا الحلف، وهنا يمكن تذكر أن السيرة التقليدية لمحمد تتحدث عن مشهد لقاءه الأول بوفد يثرب، وتذكر أن اليهودية كانت حاضرة في ذلك المشهد، وقد يفهم من السياق أن المبادرة هنا لم تكن لمحمد تماما وإنما لليهود، وهو ما يتفق مع سيناريو سيبيوس.

أما فيما يخص مكة والكعبة والحرم فهناك من اقترح نظرية مثيرة (راجع كتاب "التزوير الكبير" أ.ج. ديوس) مفادها أن القائمين عليه - وربما من بنوه - كانوا جماعة من الكهنة اللاويين اليهود، تعود أصولهم إلى القدس حيث تم طردهم منها في القرن الأول للميلاد بعد هدم معبدهم على أيدي الرومان ففروا إلى موقع صحراوي واختلطوا بالعرب وأسسوا بيتا مقدسا، لعل قدسيته استندت إلى تواجد إبراهيم في تلك المنطقة، قرب تيماء ؛ تلك الجماعة تسمى بنو قورح (نسبة إلى قورح أو قارون، وتقال "بنو قورش" أو "قريش")، وقد ورد ذكرهم في الكتاب المقدس اليهودي على أن وظيفتهم الرئيسية كانت حمل مفاتيح الهيكل وإطعام الحجيج، وهي نفس وظيفة قريش في السيرة الإسلامية المعربة لاحقا، كما أن جماعة بنو قورح مذكورة في سفر المزامير مصحوبة بالحديث عن بكة وطقوس حج وينبوع ماء.. هذا ونلاحظ توازيات أخرى مثل وجود الأستار على الكعبة وأيضا على الهيكل اليهودي قبل هدمه (كما قال يوسيفوس)، وحتى الأسماء، فهاشم (رأس أسرة محمد وعلي) هو اسم يهودي لله (لأن اليهود لا يحبذون ذكر اسم الإله فيقولون عنه حرفيا "الإسم"- بالعبرية هاشم)، وأما علي فهو يبدو تعريبا لكلمة "لاوي" (علوي) وهي طبقة كهنوتية، وبالفعل علي يلعب في السيرة دور القاضي والمرجع الديني، كما تربطه الروايات بالكعبة عن طريق القول أنه ولد بداخلها.

على الجانب الآخر توجد مؤشرات على دور قوي للمسيحية، مثلما رأينا في العناصر الداخلة في كتابة سيرة ابن إسحاق، وكذلك الحال مع حاكم كمعاوية، والذي تتفق المصادر على إثبات علاقة له بالمسيحية، فهناك كتابات مسيحية (الحوليات المارونية) تقول بأنه أول ما استلم الحكم زار المقدسات المسيحية وأجلّها، وهناك آثار منقوشة له تحتوي صلبان (مثل سد حمامات غدارة) بينما تخلو من أي علامات إسلامية أو إشارة لمحمد، وحتى في المصادر الإسلامية فهناك روايات أنه مات وفي عنقه صليب، ووضع ذلك على لسان نبي الإسلام كنبوءة.

أما تحالف محمد مع اليهود - لو صح- فهو مجرد حلقة واحدة في سلسلة تكون الإسلام، والذي سيأخذ وقتا حتى يتبلور وينتهي إلى صورته التي يعرفها، فقد تكون دعوة محمد بدأت كحركة "مسيحانية" عسكرية أي كحلف يهودي يحاول انتزاع الأرض المقدسة وإقامة الهيكل عليها تمهيدا لظهور المسيح المنتظر (حيث أن اليهود كما نعلم لا يؤمنون أن يسوع الناصري هو المسيح الحقيقي)، ثم أن تلك الدعوة مرت بتطورات لاحقة غيرت منها.

تلك الفكرة هي ما يقوم عليه كتاب "الهاجرية" المذكور، حيث يقوم الكاتبان بتفحص المصادر الأجنبية المبكرة التي تتحدث عن العرب ونبيهم، ليخلصوا إلى نتيجة أن الغزاة الأوائل لم يكن لديهم دين، وإنما كانوا يسمون السراسنة أو الإسماعيليين أو المهاغرايا (نسبة لهاجر زوجة إبراهيم، أو نسبة لفعل الهجرة،أي المهاجرين)، وأنه بعد حدوث الغزو بدأ الهاجريون يبحثون لأنفسهم عن هوية دينية تقوم وسط الشعوب التي غزوها من اليهود والمسيحيين والزرادشتيين، وأن تلك المحاولات لاحقا سينتج عنها الدين الإسلامي، والذي لا يكاد يكون له علاقة بما كان يمثله محمد.

أيا كان شكل تلك الدعوة ومراحل تطورها، فلابد أن لها إرهاصات سبقتها ومهدت لها، وهو ما سنتناوله في النقاط التالية.

- مقدمات سياسية: ماذا كان وضع العرب على المسرح العالمي قبل الإسلام؟

الخريطة السياسية للعالم قبل الإسلام كان يحددها الصراع بين الإمبراطوريتين الكبيرتين: الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وكان العرب يعيشون على الحدود المشتعلة بين الخصمين.

أكثرنا يعتقد أن العرب قبيل الإسلام (باستثناء قريش مكة) كانوا مجرد قبائل جوالة بلا كيان سياسي أو حضاري، ولكن المصادر التاريخية تجمع على غير هذا، فالعرب كانوا يحكمون مناطق كبيرة من الشام (الغساسنة) والعراق (المناذرة) واليمن (الحميرين) بالإضافة لوسط الجزيرة (الكنديين)، فكانت هناك ممالك تربط بينهم مصالح ومعاهدات وأحيانا حروب.

كان عرب سوريا والعراق أكثرهم مسيحيين ولكن من مذاهب مختلفة عن بيزنطة التي كانت تؤمن بالمذهب المسمى الملكاني، فانتشر في سوريا المذهب اليعقوبي، بينما تدين العراق بالنسطورية، وكانت هناك دائما تجمعات وثنية وأخرى يهودية، وكان عرب سوريا (الغساسنة) يعملون كولاية تابعة للبيزنطيين، بينما عرب العراق (المناذرة) يعملون لصالح الفرس، وكثيرا ما قامت بين الفريقين حروب بالوكالة عن السيدين المتنافسين، وقبل الغزو العربي بقليل تم تفكيك مملكتي الغساسنة والمناذرة.

وفي الجنوب كان الحميريون- ورثة سبأ- لديهم هوية مستقلة عن النفوذ البيزنطي والفارسي، وكانوا يميلون إلى تأكيد تلك الهوية عن طريق تبني نوعا من التوحيد الديني الخاص (يسمى أحيانا "التوحيد الحميري"، بكسر الحاء وتسكين الميم وفتح الياء) بينما اتجه بعض حكامهم إلى اعتناق اليهودية.

وقبيل زمن محمد كان إحدى ملوك حمير (ذو نواس) قد اعتنق اليهودية، ويقال أنه أقام مذبحة للمسيحيين في نجران، فأرادت بيزنطة التذرع بذلك للإنتقام، فأوعزت لحليفتها المسيحية الحبشة بأن تقوم بغزو اليمن، وهو ما حدث بالفعل نحو 530 م، ولاحقا قام أهل اليمن بالإستعانة بالفرس لمساعدتهم على الإستقلال، ونجحوا في ذلك فعلا فظلت اليمن تابعة للفرس حتى جاء الإسلام.

وفي الشمال كانت هناك جولة عنيفة بين الفرس والروم، جاء أهم فصولها في التغول الفارسي في مناطق بيزنطة وغزوهم للشام ومصر، وقد رد هرقل على ذلك بهجوم مضاد نجح فيه في تهديد قلب الإمبراطورية الفارسية، وانتهى الأمر بمعاهدة سلام عادت فيها الشام ومصر إلى الحكم البيزنطي، وكان ذلك قبل بدء الغزوات العربية مباشرة.

- مقدمات مناخية: ما الذي جعل البعض يعتقد أن نهاية العالم وشيكة؟

مع تصاعد وتيرة الحروب ذات الصبغة العالمية بين الفرس والروم، ومع زيادة الحماسة الدينية وتورط الطوائف المسيحية واليهودية والزرادشتية في تلك الحروب، نشطت عند أهل تلك الديانات نغمة قديمة، مفادها أنهم يشهدون حروب نهاية الزمان، مما جعل البعض ينتظر عودة المسيح (المسيحيين) وجعل آخرون ينتظرون مجيء المسيح الأصلي (اليهود) متزامنا مع استعادة القدس وإعادة بناء الهيكل السليماني كما تقول النبوءات.

ولكن لم تكن الحروب فقط هي ما أشعلت الإيمان بقرب القيامة، وإنما كانت هناك ظواهر مناخية فريدة في القرن الذي شهد ولادة محمد، وكتب عنها المؤرخون القدامى بفزع: منها طاعون هائل الحجم (يسمى طاعون جستنيان نسبة للإمبراطور البيزنطي، لأنه حدث في زمنه)، قضى على نسبة كبيرة من سكان المدن من الصين حتى أسبانيا، وهناك ظاهرة أخرى غامضة هي حدوث إظلام شامل (ربما بركاني) غطى الأرض لعدة شهور، وتم تسجيله من قبل المؤرخين المعاصرين (يمكن مراجعة كتاب توم هولاند "تحت ظل السيف").

- مقدمات دينية: ماذا نعرف عن الجاهلية؟
ويمكن استنتاج أن سماع العرب عن تلك الظواهر المدمرة والقريبة من ديارهم أدت إلى إحياء أساطير "الأقوام الهالكة" مثل عاد وثمود، والتي ربطوها بالبيوت الصخرية التي كانوا يرونها في أسفارهم خاصة ما بين الأردن ويثرب، كما نرى في القرآن، ولعلهم ظنوا أن الله قد اختارهم للنجاة من دون الأمم.

ليس هذا فقط بل إن كل التأثيرات السابقة نلمح صداها في النص القرآني: الصراع السياسي بين الفرس والروم، الصراع الديني بين اليهود والنصارى، وكذلك قرب نهاية العالم مع ظواهر مخيفة مماثلة كالإظلام، وحتى عودة المسيح وخروج يأجوج ومأجوج..إلخ.

ثم إن الإضطرابات السياسية والدينية والمناخية المذكورة كان لها نتائج أخرى، فقد تسببت في هجرة العديد من الطوائف الدينية المضطهدة (يهود ومسيحيين هراطقة) هربا من الحروب ومن الإستقطاب الديني ففروا بدينهم، وكان ملاذهم الآمن هو صحراء قلب الجزيرة العربية، والتي كانت سالمة نسبيا ليس فقط من الحروب والإضطهاد الديني وإنما من الطاعون والأوبئة، الأمر الذي سيساعد تلك المنطقة على أن تلعب دورا سياسيا ودينيا قريبا.

ولا شك أن هؤلاء "المهاجرين" قد جاءوا بطباعهم الدينية الخاصة بما تحمله من أفكار وقصص وتراث ديني متنوع، ولا شك أن روح الصحراء ستساهم في إحياء التراث الموسوي والإضطهاد اليهودي من جبابرة فرعون، و عموما لا شك أن تواجد وتفاعل تلك الطوائف سيكون له الدور الأكبر في صناعة البذرة الأولى للحركة الدينية والسياسية التي ستسمى الإسلام.

تجمع المصادر على أن العرب كانوا يحجون إلى بيت مقدس في مكان مجهول في الصحراء، ويبدو أنه ارتبط بإبراهيم وطقس الأضحية، ويحتمل أنه كان أحد المراكزالتجارية القديمة في البادية ما بين العراق والشام، علما بأن تلك المنطقة لم تكن غريبة عن التراث الديني للشرق الأدنى ككل، وهنا يمكننا فتح قوس واستحضار قصة نابونيد البابلي، والتي قد تكون مرتبطة بقصة الكعبة وإبراهيم.

نابونيد هو آخر ملوك بابل القديمة (القرن السادس ق.م)، ويحكى أنه في أواخر أيامه ارتحل جنوبا إلى شمال الجزيرة العربية لأسباب دينية تتعلق برفضه للإله البابلي مردوخ وحرصه على عبادة إله القمر الحراني سين، فاستوطن تيماء بين العرب وبنى هناك معبدا لإلهه.

من الصعب تتبع التأثيرات الدينية لزيارة نابونيد، على العرب أو على اليهود (إذ أن تيماء قيل أنها كانت مركزا يهوديا أيضا)، ويبدو أن هناك خلطا حدث بينه وبين الأب الأسطوري إبراهيم، حيث نقرأ في التوراة أن إبراهيم أصله من أور (البابلية) وأنه ترك قومه الوثنيين وذهب إلى فلسطين مرورا بحران (بدون أن تقدم لنا التوراة تبريرا كافيا لذلك المرور)، بينما في التراث العربي المرتبط بالإسلام أن إبراهيم ذهب إلى الصحراء وبني بيتا لله هناك.

وفي القرآن نرى مشهدا مهما هو قيام إبراهيم لفترات وجيزة بعبادة الشمس ثم القمر ثم كوكب، ثم اتجاهه لعبادة الله، بينما يوجد نقش شهير للملك نابونيد واقفا يتعبد إلى الآلهة الثلاثة: الشمس والقمر وكوكب المشترى، مما يؤكد وجود علاقة بين الشخصين في المخيلة الشعبية العربية، علما بأن عبادة الكواكب هي طقس حراني شهير.

فالخلاصة أن أصداء التوحيد، وارتباطها الأسطوري بإبراهيم (نابونيد)، وتجسدها الفعلي في بيت مقدس، هي عناصر متواجدة في الأرض العربية خاصة الشمالية قبل الإسلام بزمن.

وأما في الجنوب، فقد رصد الدارسون تحولا لافتا في المنقوشات اليمنية منذ أواخر القرن الخامس للميلاد، حيث ظهر اتجاه لنبذ الآلهة الوثنية والنزوع نحو التوحيد بإله واحد (الرحمان) ("التوحيد الحميري" والذي ربما كان بتأثير يهودي)، وهو أمر نجد تأكيده في التراث الإسلامي مع الحديث عن الحنفاء.

- إسلام قبل محمد؟

في الكتابات التراثية عن الجاهلية يظهر وجود قوي لموحدين عرب قبل الإسلام، يسمون "الحنفاء" (والكلمة يبدو أن أصلها يعني "الوثنيين" باللغة الأرامية، وكان يستخدمها المسيحيون السريان لوصف جيرانهم العرب، ثم تبدل المعنى لاحقا ليعني التوحيد الممهد للإسلام)، والذين وصفوا بأنهم على دين إبراهيم ويمارسون بعض الطقوس الإسلامية مثل نبذ الأصنام والنهي عن الوأد وتحريم الخمر وغيره من الممارسات التي ستصبح إسلامية لاحقا.

كما يظهر تواجد قوي لليهود والمسيحيين، وربما الصابئة والمجوس، ونلمح تشابهات كبيرة جدا بين الإسلام وبين تلك الأديان، فالعقيدة الإسلامية (التوحيد) تشبه العقيدة اليهودية أوالحنفية العربية، وقصص الخلق والطوفان ورحلات الآباء وقصص إبراهيم ويعقوب ويوسف والأسباط وتراث الأنبياء وسيرة اليهود من الدخول والإضطهاد في مصر ثم الخروج مع موسى وحتى غزو فلسطين وإقامة مملكة داود\سليمان كلها تكاد تكون مطابقة مع التاناخ اليهودي وكتابات الحاخامات في التلمود وغيره، وكذلك طقوس العبادة متشابهة مع طقوس اليهود والمسيحيين والزرادشتيين (وفي ثنايا القرآن نلمح اعترافات واضحة بوجود الصلاة والركوع و السجود والقيام و الصيام في تراث الأديان السابقة)، وحتى الشريعة لا جديد فيها، فالحدود تشبه ما كان موجودا لدى العرب واليهود (مثلا رجم الزناة هو حكم توراتي، ونفس الشيء ينطبق على قطع أيدي السارقين والجلد) والمعروف أن طقوس الحج أيضا تطابق ما كان يمارسه العرب مع تعديلات طفيفة (يمكن مراجعة كتاب "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" لخليل عبد الكريم).

ومنذ فترة يتكلم المستشرقون عن المصادر المسيحية التي اقتبس منها القرآن قصصه وشرائعه، منها مثلا قصص ولادة وطفولة عيسى\يسوع ومشاهد هز مريم للنخلة ثم تكلمه في المهد، فقد وردت في أناجيل أبوكريفية مثل إنجيل توماس والطفولة وغيره، كما أن هناك العديد من قصص القرآن تجد جذورها في الأدب السرياني المسيحي قبل الإسلام (مثل قصة ذو القرنين وقصة أهل الكهف)، وتوجد أحاديث محمدية نجدها مطابقة لأقوال مسيحية (مثلا قوله أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يماثل قولا مشابها للرسول بولس)، وقد مر بنا تشابه أحداث السيرة مع أحداث خارقة كانت تحكى عن القديسين المسيحيين منها قصة هبوط الوحي ذاته، وهناك تشابه آخر مع نبي من القرن الثالث لطائفة تسمى "الكسائيين" قيل أنه تلقى كتابا عن طريق ملاك عملاق، مما يشابه قصة محمد وجبريل.

ويلاحظ البعض أن القرآن يحتوي كلمات يونانية (إلى جوار لغات أخرى)، مثل صراط وزخرف وسجل وفلك، والأغرب أنها كلمات ذات طابع عسكري أو مدني (فمثلا الصراط (ستراتا) هو الطريق الممهد الموصل بين المخيمات الحربية) وهذا كله يوحي بأن العرب الذين كتبوا القرآن أخذوا تلك الكلمات حديثا من صلاتهم السياسية مع بيزنطة (كتاب "تحت ظل السيف" لتوم هولاند).

وفي القرآن والتراث الإسلامي نجد اتهاما واضحا من قريش لمحمد بأن كلامه هو "إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون" وأنه "أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا"، ونسمع قولهم أن محمدا "إنما يعلمه بشر.. أعجمي"، ويجتهد القرآن في محاولة الرد على تلك الإتهامات.

ثم ترد في التفاسير والسيرة أسماء عديدة يبدو أنهم أثروا على محمد مثل زيد ابن عمرو ابن نفيل (قريب عمر ابن الخطاب، والذي يحكى عنه أنه يبشر بدين إبراهيم، وكان يعترض على وأد البنات، ثم أنه مرة جلس مع محمد في الجاهلية يأكلان لحما، ولما تبين أنه مذبوح للأصنام رفض زيد الأكل منه، بينما أكله محمد نفسه)، ومنهم بحيرا الراهب (الذي قابله محمد في سفره للشام قبل البعثة)، ومنهم ورقة ابن نوفل (قريب زوجة محمد)، ومنهم سلمان الفارسي وأسماء غامضة مثل جبر ويسار وأبو فكيهة وغيرهم من الحنفاء والنصارى، بل ومنهم مسيلمة نفسه (فتقول الروايات أنه حين ذكر محمد اسم "الرحمان" في قرآنه اتهمه خصومه بأنه قد تعلم ذلك من مسيلمة) -هذا ونلاحظ أن القرآن يقدم نفسه لا كدعوة جديدة وإنما كمحاولة لإحياء وتنقية الدعوات القديمة للأنبياء.

- من كتب القرآن؟
يعتبر البعض أن جون فانسبارو هو الأب الروحي لجماعة المؤرخين المشككين في التراث الإسلامي، وقد رأى (كتاب "الوسط المذهبي") أن القرآن بأكمله تم صياغته في فترات متأخرة (القرن التاسع أو ما بعده)، ويؤيده بشكل ما عدة تلاميذ أهمهم باتريشيا كرون، وأما لولنغ ولكسنبرغ فتميل وجهة نظرهما إلى أن القرآن هو في الأصل نصوص مسيحية كانت تتلى ضمن طقوس الصلوات في الكنائس، وأنه في مرحلة ما تم ترجمة تلك النصوص وتعريبها (راجع كتاب "قراءة سريانية أرامية للقرآن" للكسنبرغ) - وقد لوحظ أن كلمة قرآن نفسها ذات أصل سرياني، فكلمة "قريانا" تعني كتابات مقدسة، وكذلك كلمات مرتبطة بالنص القرآني مثل "سورة" لها أصول سريانية وعبرية.
ولو رجعنا إلى التراث الإسلامي فنسجد شواهد أخرى لافتة: منها تأكيد القرآن المستمر على أنه "كتاب عربي، بلسان عربي، حكم عربي..إلخ" تتكرر تلك التأكيدات بشكل غريب يدعو إلى التساؤل: هل كانت تلك المسألة موضع شك في زمنه حتى يهتم بتوكيدها بهذا الشكل؟ وبالفعل أشار كثيرون (منهم مسلمون وقدماء كالسيوطي) إلى وجود كلمات كثيرة أعجمية في القرآن؛ ومن وجهة نظر لكسنبرغ أن القرآن نفسه مترجم من السريانية.

وفي السيرة أن ورقة ابن نوفل كان عالما متنصرا يترجم الإنجيل إلى العربية، وحين رجع محمد خائفا من نوبة ما أصابته لكائن غريب ذهبت به زوجته إلى ورقة هذا وهو من أعلم نبي الإسلام أن ما يتلقاه هو "ناموس موسى"، فكأنه كان لا يعلم ذلك قبلها، كما قيل أن الوحي قد توقف لفترة بعد موت ورقة مباشرة، ولاحقا قيل أن محمدا كان له صديق (زيد ابن ثابت) يترجم له كتابات خاصة كانت تأتيه بالسريانية، بل هناك رواية أعجب مفادها أن محمد نفسه ليس من العرب، وإنما تعلم لغتهم لاحقا.

وهناك شواهد أخرى تفيد بأن القرآن لم يكن في الأصل كتابا، وقيل أن أصل كلمة "قرا" تعني "جمع"، وهو يسمى نفسه "فرقانا" ويبدو أن الكلمة تعني القطع والأجزاء (ومنه قوله "فرقنا بكم البحر" أي قسمناه، "فكان كل فرق" أي كل جزء، وقوله "يوم الفرقان" أي يوم الفصل بين الحق والباطل، وقوله التبريري لنزول القرآن على أجزاء "وقرآنا فرقناه لتقرأه للناس على مكث ونزلناه تنزيلا")، وبالفعل تشير الروايات أن النبي مات ولم يأمر بجمع القرآن، وأن القرآن (لو تغاضينا عن نسخة أبو بكر المزعومة) قد ظل يستخدم كأجزاء وفقرات (مصاحف) يتم تداولها بين المؤمنين، حتى حدث الجمع المهم في عهد عثمان.

ذلك الجمع الذي لم يخل من اختلافات واعتراضات، وتمتلئ المصادر بروايات عن الصحف القرآنية التي قيل أنها ضاعت أو نسيت أو تم حرقها عمدا، ونسخ عثمان التي قيل أنها ضاعت (كلها؟) بحلول زمن عبد الملك ابن مروان، ثم الكلام قبلها عن اختلاف في القراءة، وبعدها عن وجود عدة قراءات متداولة، ومسألة السبعة أحرف، والحديث عن وجود عدة مصاحف منسوبة لعدد من الصحابة، وحين نتذكر عدم توفر أي مخطوطات قرآنية تعود إلى زمن النبي أو الراشدين أو حتى الأمويين حتى عبد الملك ابن مروان، فإن كل هذا يلقي بظلال من الحيرة على كيفية تطور النص القرآني.

ولو ألقينا نظرة على الكتابات المسيحية المبكرة فسنجد رسائل متبادلة منسوبة للحاكمين البيزنطي والأموي (ليو الثالث وعمر ابن عبد العزيز) في شكل مناظرة دينية، وفيها يقول الأول للثاني أن كتابكم (القرآن) لم ينزل من الله وإنما كتبه أبو تراب وسلمان الفارسي (وربما الأول يكون هو علي ابن أبي طالب)، وأن الحجاج قد أرسل رجاله يقومون بجمع كتاباتكم القديمة وأحل محلها كتابات أخرى من عنده - هذا ونلاحظ أن المصادر الإسلامية أيضا تنسب دورا غامضا للحجاج في صياغة القرآن، وفي إحدى الروايات يقول الرجل أنه يعمل في ذلك بالوحي.

يضاف إلى ذلك كله وجود بعض الآيات القرآنية التي تبدو محشورة على السياق العام (راجع على سبيل المثال الآية 3 من سورة المائدة، حيث يكون الحديث عن الطعام الحلال، ثم نقرأ فجأة مقطعا عن إكمال الدين، ثم يعود مرة أخرى للحديث عن الطعام، فتبدو وكأن العبارة عن إكتمال الدين وقد حشرت في منتصف النص)، ومنها ما يصعب تصور أنه نزل في عهد محمد (مثل الآية الخاصة بالإسراء، حيث لم يكن هناك مسجد في القدس آنذاك، ومثل الآيات التي تتحدث عن وجود اختلافات حول تفسير القرآن أو الإيمان به، مثل 7 من آل عمران، مما لا يتصور وجوده زمن النبي، بل يحتمل أنه أضيف متأخرا على النص لقطع الطريق على كل من يشكك في الآيات أو يحاول تأولها).

- عن الفتوحات: كيف صار العرب إمبراطورية؟

لنبدأ بسؤال مختلف أبسط: بفرض أن كل ما وصل إلينا عن الغزوات الإسلامية كان دقيقا، فهل تعتبر تلك الحركة معجزة سياسية وعسكرية لا مثيل لها في التاريخ؟

ومن يهتم بالتاريخ يعرف أن الجواب بالنفي، فنعم لا شك أن تلك الفتوحات ظاهرة مهمة وكبيرة ومدهشة، ولكنها أبعد ما تكون عن التفرد أو الإعجاز، وإنما هي من الأمور المدهشة التي تكررت بأشكال مختلفة عبر التاريخ الإنساني الطويل، وما أكثرها.

ولنأخذ مثالا شهيرا: جنكيز خان، القائد المغولي الذي كانت حياته الأولى شاقة حيث قام أعداءه بقتل والده وتم طرده مع أسرته من القبيلة، ثم تعرض إلى الأسر والعبودية هو و زوجته، وبدأ مسيرته بعشرات قليلة من الرجال، ثم نجح - بالقوة والحيلة- في توحيد قبائل المغول تحت سلطته وانطلق ليغزو مدنا كبرى ويهزم دولا عريقة ولم يوقفه شيء، حتى أن غزواته تعتبر الأنجح والأوسع والأسرع في التاريخ البشري، حيث احتل أكثر مما احتله أي إنسان آخر في التاريخ، بل إنه وضع دينا وكتابا (الياسق) نظم به شئون جماعته، وكان -على دمويته- متسامحا دينيا بعكس ما قد نعتقد.

ثم إن حالة نجاح قبائل همجية في احتلال مدن كبرى هي مسألة متكررة كثيرا عبر التاريخ، منهم الهكسوس الذين حكموا مصر الفرعونية، والجرمان الذين أسقطوا روما، وغيرهم كثير، بل وتكررت المسألة في العصور الحديثة مع عدة نماذج إسلامية، فمن يتتبع تاريخ الحركة الوهابية وتأسيس السعودية، ثم صعود حركة داعش المعاصرة في العراق وسوريا، يجد الكثير من التشابهات بين تلك الحالتين وبين تأسيس الإمبراطورية الإسلامية الأولى، ففي كل الحالات نجد جماعات بسيطة تتحد تحت قيادة محلية تحركها الحماسة الدينية والطمع في السلطة والمغانم، وقد تنجح تلك الحركات في سحق جيوش أكثر عددا وسلاحا وحكم مدن أكثر تقدما وعراقة، فلا جديد هنا.

والخلاصة أن حركة الغزوات الأولى المسماة إسلامية هي- على قوتها وسرعتها المدهشة بالفعل- إلا أنها ليست شيئا خارقا أو إعجازا وحيدا إذا ما قسناها بمقياس التاريخ، فالماضي الإنساني ممتلئ بحركات توحد وقادة عباقرة وتوسعات سريعة وتقلبات مفاجئة.
وأما لو اقتربنا أكثر من المشهد، فستتبين لنا تفاصيل تجعل المسألة أقل إبهارا وأكثر قابلية للفهم.

فبينما يمكن معرفة سر الضعف والإنهاك الذي أصاب الفرس والروم قبيل الإسلام، بسبب الحروب المستمرة والكوارث الطبيعية كما ذكرنا، فقد تساءل كثيرون عن سر القوة العسكرية التي توفرت للمسلمين الغزاة فمكنتهم من احتلال مدن جديدة عليهم وحكم مناطق شاسعة شرقا وغربا، بل وشكك البعض في إمكانية توافر العدد والسلاح والطعام اللازمين لبدء الغزوات إن كانت انطلقت- كما يفترض- من قلب الجزيرة العربية، بينما تفحص آخرون المصادر القديمة وخلصوا إلى إنكار (على الأقل جزئي) للفتوحات كما نعرفها (انظر مثلا كتاب "العرب لم يفتحوا الأندلس" لاسماعيل أمين).

وظهرت نظريات تتفحص المصادر المسيحية واليهودية المعاصرة مع إعادة قراءة المكتشفات الأثرية كالمنقوشات والعملات بهدف إعادة تفسير ما حدث بشكل أكثر واقعية، فمثلا كتاب "الأصول الخفية للإسلام" (وهو مجموعة مقالات لعدة كتاب) يشير إلى أنه نتيجة الصدام العنيف والمنهك بين الفرس والروم فقد قرر هرقل الإنسحاب بشكل سلمي من الشام ومصر، وترك حكم تلك المنطقة للعرب ؛ لو صح ذلك فسيمكن تفسير حدوث بعض المعارك بين العرب والروم في الشام ومصر بأنه صدام بين الحكام الجدد القادمين مع بعض حاميات بيزنطية رفضت الإنسحاب أو تمرد قوادها، وهي مسألة لم تكن نادرة الحدوث في ذلك السياق على كل حال.

وأما فيما يخص فتوحات العراق وإيران، فيوجد كتاب آخر هو "الكونفدرالية الساسانية- البارثية والغزو العربي لإيران" لبارفانه بورشارياتي، يطرح نظرية مفادها أن الإمبراطورية الساسانية كانت مفككة بشكل كبير وقت الغزو العربي، وكانت تعمل على شكل كونفدرالية (وحدة لامركزية) مع البارثيين الذين كان لهم درجة عالية من الإستقلالية، وبسبب نزاعات داخلية انسحب البارثيين بعائلاتهم القوية من الإتحاد وأقاموا اتفاقا جانبيا مع العرب، مما ترك الساسانيين عاجزين عن تشكيل دفاعا حقيقيا.

ومن المصادر الإسلامية نعلم أن عرب العراق كان لهم دور في الغزوات، فيحكى أن المثنى ابن حارثة الشيباني كان يشن غارات ضد الفرس، قبل أن يتحالف معه أبو بكر الصديق ويرسل له خالد ابن الوليد مددا له لإكمال ما بدأه.

هذا كله يعطينا انطباعا أن استلام العرب لحكم المنطقة كان تحولا سياسيا، وإن تضمن مواجهات عسكرية بالطبع، بشكل أكثر تعقيدا من مجرد حملات غزاة بدو حركتهم الحماسة الدينية فانطلقوا يغزون العالم.

وأما كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر" لسليمان بشير، وكتاب "محمد ومعاوية والتاريخ المجهول" لهشام حتاتة، فيلاحظا عدة أمور لافتة أوردتها السيرة ولا تبدو مستقيمة مع المنطق تماما :

منها الإنقلاب المباغت في موازين القوة بين المسلمين والمشركين بعد صلح الحديبية مباشر حيث ارتفع نجم محمد كزعيم محلي بشكل فجائي غريب، الأمر الذي أدى إلى فتح مكة بعد عامين،

ومنها أن ذلك الفتح لم يمانع في تولي الأمويين (المهزومين) سلطات واسعة بعد ذلك،
ومنها ما جرى من استخلاف أبي بكر رغم أنف الأنصار وكأن ثمة قوة عسكرية أجبرتهم على الخضوع،

ومنها قدرة أبو بكر آنذاك على إخماد ردة واسعة شملت كل العرب تقريبا،

ومنها أن العلاقة والمراسلات بين عمر ومعاوية توحي وكأن الأخير (الوالي) في مكانة أعلى من الأول (الخليفة كما يفترض)،

ومنها العلمانية المدهشة للخلفاء الأمويين بما لا يتناسب مع الفورة الإسلامية الناشئة -

تلك المؤشرات قد تساهم في رسم صورة مختلفة عن السيناريو التقليدي الذي وصل إلينا، فيرى هشام حتاتة أن معاوية كان عربيا مسيحيا يحكم الشام وأنه في مرحلة ما تحالف مع محمد في يثرب - هذه النقطة فقط قد تساعد في تفسير وفهم الأمور الغامضة السابق ذكرها.

وهناك عنصر آخر مهم ساهم في تشكيل القوة المحمدية، ورغم أنه مذكور في المصادر الإسلامية إلا أنه غير مشهور بين المسلمين، ربما لأنه يتعارض مع الصورة النقية التي يراد طرحها عن نشأة الدعوة الإسلامية، ألا وهو عنصر الصعاليك، وهم الأفراد المطرودين من القبائل نظرا لسلوكهم الإجرامي المارق، مما أدى إلى تجمعهم في مستوطنات خارج المدن العربية، حيث تخبرنا المصادر أن محمدا بعد الهجرة راسلهم وأعطاهم الأمان مقابل أن يتبعوه، ولا شك أن لأولئك الصعاليك (والذين كان منهم مثلا أبو ذر الغفاري، الذي كان لصا قاطعا للطريق فصار صحابيا جليلا، إلا أن ممارساته لم تتغير كثيرا- فقد صار يوجهها ضد خصوم الدعوة).

- إذن، ما الذي حدث؟

قلنا في المقدمة أننا لن ندعي تقديم جوابا كاملا ويقينيا على السؤال، وبالتالي فما سنفعله هنا - كختام- هو الإستناد على ما سبق لطرح سيناريو محتمل لا أكثر، ولكن يظل بنظري أكثر واقعية من السيناريو الساذج المختزل الذي تقدمه لنا الرواية الرسمية.

ربما ما حدث هو الآتي:

1- الخلفية التاريخية للأحداث هي حروب الفرس والروم التي أنهكت الطرفين، إلى جوار كوارث طبيعية وأوبئة لم ينج منها سوى الصحراء العربية جنوب الأحداث، والتي كانت تجري فيها أمور أخرى.. فمنذ القدم والصحراء العربية تتلقى هجرات طوائف عديدة مضطهدة وهاربة من الشمال والجنوب: يهود ومسيحيون وهراطقة، فتبلورت هناك أفكار مثل التوحيد الإلهي وتوقع قرب القيامة وغيرها من الأفكار التي أثرت على العرب.

2- يهمنا مركزين مهمين : الأول مدينة مقدسة للعرب احتوت بيتا للحج وحرما، ولا تقع في مكة الحالية وإنما في مكان ما شمال السعودية جنوب الأردن، ربما البتراء (سنسميها بكة) تتمركز فيها حول الكعبة جماعة من الكهنة اللاويين اليهود الفارين من القدس بعد هدم المعبد (بنو قورح\ قريش)، ويختلطون منذ قرون بعرب وثنيين تأثر بعضهم بالتوحيد والتقاليد اليهودية (الحنفاء).. المدينة الثانية هي يثرب (المدينة المنورة) والتي تحولت إلى موطن للمهاجرين الثائرين الفارين من الإضطهاد الديني بعقائدهم المختلفة، منهم يهود وعرب، ويبدو أن الجدل احتدم حول المسيح اليهودي القادم ليعيد المجد الإسرائيلي، وأن العرب التقطوا تلك الفكرة في مرحلة ما وقرروا تحويلها إلى مشروع سياسي عسكري.

3- في تلك الأثناء ظهر محمد؛ لا يمكن معرفة الكثير عن أصله وجذوره قبل زعامته في يثرب (في المرحلة المسماة المكية)، ويبدو (من القرآن والسيرة) أنه قد ولد في مدينة الحرم وتعلم عند بعض اليهود، أو ربما اليهود المسيحيين (المسمون بالنصارى\الإيبونيين) وهو على الأرجح مصاب بصرع الفص الصدغي (والذي تتشابه أعراضه إلى حد مدهش مع ما قالت السيرة أنه كان يصيبه في حالة الوحي)، وتم تبنيه من قبل ورقة وخديجة، ثم طرد مع آخرين من بكة أو تم استدعاؤهم من قبل أهل يثرب في إطار حلف سياسي وليد (حيث أن بيعة العقبة في السيرة لم تخل من سيرة اليهود، وسيرة الحرب)؛ ويبدو أن محمدا لم يكن القائد الوحيد للحركة السياسية الدينية الوليدة في المنطقة ومركزها يثرب.

4- هنا تشكلت دولة المدينة على نزاعات داخلية، وعلى المنافسة الخارجية- ثم العداء- السياسي والديني مع أهل بكة في الشمال: في جانب لدينا عرب وثنيون يجاورهم كهنة يهود أصحاب مصالح، وعلى الجانب الآخر تجمع طوائف دينية وعرب موحدون (مهاجرون، مطرودون) يجاورهم جماعات يهودية قبلية مسلحة.. وفي هذا الإطار ولد القرآن، أولا كنصوص دينية عامة من وحي المكان (مرحلة سجع الكهان)، ثم بعد الهجرة كدعوة لرفع راية التوحيد والتحالف ضد المشركين في بكة، ومكون من نصوص منقولة من التراث الكتابي ومحاولة لإحياء ذلك التراث، متضمنا عتاب اليهود الذين فضلهم الله على العالمين فخذلوا رسالته، ومدح أهل الكتاب الذين يؤدون حق الله، ولمطالبة الجميع بالإتحاد خلف نبي واحد والجهاد معه، كما ستظهر طقوس وعبادات مشتركة بين المهاجرين مستمدة من أديانهم القديمة، ويبدو أن عددا من اليهود اتبع محمدا بصفته النبي الذي يمهد لقدوم المسيح آخر الزمان، بل الأرجح أن محمدا وأصحابه في أول الأمر كانوا متهودين أو يهود مسيحيين يصلون إلى القدس، وربما يحلمون بحكمها يوما ما مع المسيح القادم.

5- وأمام الرفض والعناد من جانب الكهنة والوثنيين في بكة سيشتعل الجدال أكثر، وسرعان ما ستتحول الدعوة التي كانت مسالمة إلى حركة مسلحة، فحدث التبدل في الخطاب المميز لمرحلة مكة- المدينة، إذ تراجع حديث التسامح والقصص والغيبيات والقيامة المرتبط بالتقوى والرهبنة والحنيفية، إلى حديث غزو وحرب وتحالف ومعاهدات، بالإضافة إلى تقسيم غنائم وعبيد وجوار المرتبط بالصعاليك البدو، وتدريجيا بدأ الإبتعاد بين محمد ويهود يثرب حيث يئس من تصديقهم به وشك في ولائهم له نتيجة تعاطفهم المحتمل مع إخوانهم القرشيين في بكة، فحول القبلة متجها إلى البيت العربي، وحاول استعادة تراث إبراهيم المستقل عن اليهودية (مثلما فعل المسيحيون الأوائل تجاه اليهود)؛ واندلعت المواجهات العسكرية هنا وهناك، ويبدو أنها كانت مواجهات ضيقة ضئيلة العدد وغير مؤثرة، وبدون نتائج حاسمة لأحد الفريقين.

6- التحول المهم حصل مع تدخل طرف ثالث هم عرب الشام؛ ويبدو أنهم قد حصلوا على سلطة ذات حكم مستقل منذ عام 622 (العام الذي سيسمى لاحقا عام الهجرة ويبدأ عنده التقويم العربي، حيث أن منقوشات وبرديات هذا العهد تسميه "حكم العرب" ولا تذكر شيئا عن محمد أو هجرة)، وذلك مع تصاعد المواجهات بين الفرس والروم، حيث تعرض هرقل إلى ضربة عسكرية قوية جعلته ينسحب من حكم المنطقة ويتركها للعرب المسيحيين (سنسميهم الأمويون) والذين يمثلهم ربما معاوية الطموح، والذي أراد ملء فراغ بيزنطة وبسط نفوذه في العمق العربي، ويبدو أنهم قبل ذلك كانوا متحالفين مع أهل بكة تجمع بينهم التجارة والمصالح (ولهذا ستنسب السيرة الأمويين إلى قريش ككيان واحد)، وربما تشاركوا في الحرب ضد حزب محمد في الغزوات الأولى.. ولكن لاحقا تبدلت التحالفات وقرر الأمويون في الشام تغيير الحليف والإستفادة من قوة المهاجرين والصعاليك المتصاعدة في يثرب، وبنفس الوقت كان محمد قد يئس من نصرة اليهود وأراد الحصول على دعم آخر - وهنا كان عهد- أو صلح- الحديبية بين محمد كسلطة دينية والأمويين كسلطة سياسية، وتم إرسال قائدين شاميين بارزين (عمرو ابن العاص وخالد ابن الوليد) إلى محمد للعمل معه، مع بقاء المدينة تحت نوع من الحكم الذاتي لمحمد وأصحابه المهاجرين.

7- هذا الحلف كان له تأثير مركب على دولة المدينة، حيث كان فتحا مبينا من الناحية السياسية، فرفع من شأن محمد بين قبائل العرب كقائد يحظى باعتراف مملكة الشام المرموقة، ومن الناحية الدينية جعل الخطاب القرآني يبتعد عن اليهودية ويزداد كرها لليهود ويقترب من المسيحيين ويودهم بل ويبتهج -بأثر رجعي- بانتصار الروم على الفرس، وأما من الناحية المجتمعية فقد حظي الحلف باعتراض قطاع من أهل يثرب الكارهين لبيزنطة المسيحية والمتمسكين بأصلهم اليهودي، ولا يستبعد أن محمدا قد فقد حياته (فقتل مسموما) من جراء تلك الخطوة.

8- وأما من جانب قريش فقد فقدوا دعمهم السياسي العسكري في الشام، وكانت مسألة وقت حتى يفقدوا سلطتهم على البيت المقدس فيتم تسليمه - بلا حرب- إلى محمد والمهاجرين (فتح مكة)، وبعد وفاة محمد تبدأ السيطرة الأموية على قلب الجزيرة العربية واليمن من خلال حلفاءهم في يثرب، فيقوم أبو بكر (خليفة محمد، ومن لقبه "الصديق" يبدو أنه من أصول يهودية) بفرض سيطرته على القبائل والأنبياء الآخرين مثل مسيلمة وسجاح، بمساعدة القادة الأمويون خاصة خالد ابن الوليد (الحروب التي تسمى حروب الردة).

9- بعد ذلك سيحكم المدينة خليفة كاريزمي متدين هو عمر (والذي يبدو أصله يهودي أيضا)، وهنا يتم إعادة إحياء دور محمد كنبي ممهد لقدوم المسيح، ويحاول عمر أن يلعب دور المسيح اليهودي شخصيا، نلمح ذلك من شخصيته التي تصور بقدر أسطوري من القوة والزهد والعدالة يشكل يفوق محمدا نفسه، ومن اللقب الذي حمله (الفاروق أي المخلص) ومن علاقاته الطيبة مع اليهود، وأخيرا يبدو دوره المسيحاني واضحا في دخوله إلى القدس راكبا على حمار أو بغل، وهي من أهم علامات المسيح، ثم تتأكد المسألة حين يبدأ عمر في إعادة بناء الهيكل اليهودي (الذي سيقال لاحقا أنه موضع إسراء محمد)، وإلى جوار ذلك تستمر حركة الفتوحات في العراق ومصر وتبدو يثرب قوية مستقلة أكثر من أي وقت مضى، حتى مقتل عمر.

10- أما عصر عثمان فيمثل محاولة الأمويين احتواء قوة يثرب، ونجاحهم في ذلك عن طريق تعيين والي منهم منهيا الحكم الذاتي للمهاجرين، ثم حاولوا فرض نفوذهم الديني أيضا عن طريق تجميع النصوص الدينية للمهاجرين وتنقيحها والتخلص من بعضها، مما يبدو أنه استجلب ثورة أهل الأمصار الكارهة للشام وحكمها، حتى قتل عثمان، ثم محاولة أهل بيت محمد الهاربين والمهاجرين استعادة السلطة في العراق والمدينة، فتنفجر الأوضاع، الأمر الذي تمثله محطات خلافة علي ومعارك الجمل وصفين، ولاحقا ثورات الحسين والزبير، إلا أن تلك المحاولات المتحمسية دينيا والمشتعلة بالثورة والإنتساب إلى النبي، لن يكتب لها النجاح حتى ثورة متأخرة هي الثورة العباسية.

11- حتى ذلك الحين لا يبدو أن هناك دين اسمه الإسلام، ولا يبدو أن الأمويين انضموا إلى عقيدة محمد، والتي لم تكن أكثر من دعوة إحياء وتنقية للتوحيد وتحذير من قرب الآخرة مع قدوم المسيح المنتظر، وإنما الأرجح أن عرب الشام كانوا دهاة سياسيون يميلون إلى المسيحية ولكن إدراكهم لطبيعة العرب جعلتهم يحاولون استمالتهم دينيا بهدف محاربة الثورة السياسية التي كانت تتخفى في شكل ديني، وإجهاض الزعامات التي تتخفى في شكل نبوات؛ ومع تكرار تلك الثورات -من العراق والشام- قرر حاكم أموي هو عبد الملك ابن مروان أن يقوم بخطوة تاريخية، فبعد إجهاضه لثورات العراق والحجاز قرر أن يوحد الشعوب تحت حكمه تحت دين واحد يقف رأسا برأس مع اليهودية والمسيحية، فكان الحل هو استلهام نموذج محمد الشعبي في العراق والحجاز مع إعادة تعريب وتنقيح نصوصه المكتوبة (القرآن)، وبالتالي خلق الإسلام كدين رسمي للعرب؛ وإن كان البعض يعتبر عبد الملك مؤسس الإسلام، وهذا قد يكون صحيحا، إلا أنه يبدو أقرب إلى "مبتلع للثورة" فهو استلهم عقيدة العرب وحولها لصالحه لكي يتخلص من الثورات الدينية بإسم أسرة محمد أو بإسم أنبياء آخرين، فشهادة "محمد رسول الله" هي إعلان وفاة أي ثورة سياسية تتذرع بالدين في أي مكان، وقد قام الخليفة ومعاونه الفذ الحجاج بتعريب القرآن وفرض الأفكار الجديدة على المنطقة واجتثاث أي جذور معارضة، حتى صار العرب لهم إله واحد ونبي واحد وكتاب واحد، وبالتالي خليفة واحد وإمبراطورية واحدة، وولد الإسلام كدين مستقل قائم بذاته.. وتم تحييد أفكار المسيح المنتظر (فصار المنتظر هو يسوع المسيح، بينما ظلت فكرة المسيح اليهودي قائمة في فكرة "المهدي" خاصة لدى الشيعة.

12- في هذا الإطار يمكننا إعادة تفسير الصراع بين البيوت المقدسة، كصراع بين الأجنحة العربية واليهودية داخل الدعوة : فالقبلة بدأت إلى القدس زمن محمد وأتباعه المتهودين، ثم تغيرت إلى بكة الشمالية في محاولة محمد لتوحيد العرب بعد يأسه من اليهود، وظلت كذلك حتى تهدمت الكعبة الشمالية في إطار حرب عبد الزبير وعبد الملك، والتي تضمنت محاولة الأخير توجيه الحج إلى القدس وبناؤه قبة الصخرة هناك كامتداد للهيكل اليهودي الذي أعاد تأسيسه عمر، ولاحقا قام الزبيريون بنقل الحجر الأسود إلى قرية جنوبية (مكة الحالية) لتكون بعيدة عن نفوذ الأمويين في الشام، وأخيرا ستأتي الخطوة التوفيقية لأبناء عبد الملك حين اعترفوا بالقبلة الجديدة في إطار تبنيهم لدين الحجازيين - وقد ظل التخبط في القبلة والمصحف والطقوس الدينية مستمرا لفترة، حتى سيستقر إلى حد بعيد في العصر العباسي.

13- على التوازي تأتي مراحل أخرى تساهم في تطور الدين: من يثرب تنطلق الروايات عن غزوات محمد، بهدفين: الأول تحفيز جنود الفتوحات على الجهاد المقدس، وثانيا كانعكاس رمزي لما عاناه أهل البيت الثوار في مواجهة الأمويون، تلك الروايات التي ستجد طريقها إلى كتب التراث المعروفة؛ وسيظل التيار المعارض للأمويين والملتف حول الأسرة المحمدية مستقلا عن التيار الرسمي - في شكل الإسلام الشيعي - ومع الثورة العباسية سيتبلور أكثر الحديث النبوي ويتطور الفقه تأثرا بيهود العراق، وستكتب السيرة بتأثير مسيحي (ابن إسحاق)، حين يكون الإسلام قد أخذ هويته المتكملة، وأما الأفكار القديمة (مثل عودة المسيح اليهودي وبناء الهيكل) سيتم قمعها نهائيا أو وضعها في الظلال لصالح أفكار "أكثر إسلامية" مثل قدسية المسجد الأقصى وعودة المسيح المسيحي (عيسى ابن مريم) والمهدي المنتظر.

سواء صح ذلك السيناريو أو صح غيره، فالخلاصة أن الدين الإسلامي -كأي ظاهرة إنسانية- لم يهبط من الفضاء بين يوم وليلة، وإنما هو نبت ببطء في تربة دينية خصبة وضعت فيها بذور قديمة ثم تهيئت لها البيئة الملائمة فأخرجت ثمارها في القرن السابع والثامن والتاسع.

هناك تعليق واحد:

  1. ممكن أدلة على كلامك
    نحن نقول على أمثالك يغني و جناحه يرد عليه
    هل تناظرنا في هذا الموضوع؟

    ردحذف