الجمعة، 1 مارس 2019

هل الدين مفيد؟



هل الدين ضروري أو مفيد، للفرد والمجتمع؟


يرى البعض أن الدين هو أمر مفيد للبشرية، حتى وإن لم يكن حقيقة إلهية..

هذا الرأي يتبناه كثير من المؤمنين، بالإضافة إلى بعض اللادينيين..


مجمل تلك الرؤية أن الدين، حتى لو كان منتجا أرضيا، إلا أنه منتج ضروري لا يمكن الإستغناء عنه، وذلك من وجهين رئيسيين:

الأول أن الدين يقدم دعما نفسيا وراحة للفرد، فيمنحه المعنى في الحياة والأمل في الخلود..

والثاني أن الدين يقدم رادعا أخلاقيا يمنع الإنسان من الشرور، مما يجعله صمام أمان مهم لتماسك المجتمعات..

ويرى أصحاب ذلك الرأي أنه بدون الدين يكون الفرد ضائعا، متروكا للإنتحار أو الجريمة، والمجتمعات متروكة للتفكك والإنهيار..
فهل هذا حقيقي؟


هذا ما نحاول مناقشته هنا في عدة نقاط..
-------------------------------------------

1- هل الدين له جوانب إيجابية؟ نعم..


يجب الإعتراف بأن بعض الناس يجد راحته النفسية في الدين، والذي يمنحه راعي أكبر مهمين وهو الله، كما يمنحه معنى مرضيا لحياته، إضافة إلى الأمل في حياة أخرى قادمة، ويزداد ذلك أهمية في أوقات الضعف والأزمات، حيث يكون الدين أحيانا مصدر قوة وطمأنينة ودافعا إيجابيا..

يجب الإعتراف أيضا أن البعض يعتمد في أخلاقه، ولو بشكل جزئي ظاهري، على المعنى والنصوص الدينية، والتي تحضه على التزام الصدق والأمانة والتراحم والتعاون..إلخ..

بعض اللادينيين يرفضون الإعتراف بذلك، على أساس أن هذا يمنح الدين "نقطة قوة"؛ ولكن يجب تذكر أن المسألة ليست حربا، وأنه حتى لو كان الدين خاطئا (ليس من إله) فهذا لا يعني بالضرورة أنه كله شر مطلق، لا يحتوي ذرة خير واحدة؛ وإلا فما سر تمسك الناس به عبر تلك القرون؟
-------------------------------------------

2- هل تلك الجوانب الإيجابية تعمل مع الجميع؟ لا..


على الجانب الآخر، يجب الإعتراف أن النقطة السابقة لا تنطبق على الجميع؛ فبعض الناس لا يجد أي راحة أو معنى في الكتب الدينية، أو حتى في القرب من لله..

كما أنه ليس كل إنسان يستطيع أن يعتمد في أخلاقه على الأديان ونصوصها..

بعض المؤمنين يرفضون الإعتراف بذلك، على أساس أن هذا يخصم من قوة الدين بصفته "حلا إلهيا شاملا"، ولكن من الواضح أنه ليس وصفة سحرية تعمل مع الجميع بنفس القدر..

والخلاصة أن الناس تختلف في طبائعها وتنشئتها وميولها؛ ويجب على الطرفين (مؤمنين أو لادينيين) أن يدركوا تلك الحقيقة البسيطة، وأن يتجنبوا تعميم حكما واحدا على الجميع..
-------------------------------------------

3- هل الدين يخلو من جوانب سلبية؟ لا..


البعض يركز على الجوانب الإيجابية في الدين، ليخلص إلى أنه مفيد وضروري للبشر؛ وقد اعترفنا بوجود تلك الجوانب، ولكن نظرة شاملة ترينا أن للمسألة عدة وجوه..

وسنتطرق إلى الجانبين المذكورين:
الراحة النفسية: حيث قلنا أن الدين بالفعل يقدم ذلك للبعض؛ ولكن على الجانب الآخر يمكن القول أن الدين يقدم عوامل حيرة وقلق وتوتر وحزن..


ثم الجانب الأخلاقي: وسنرى أن الأخلاق التي يقدمها الدين ليست دوما جيدة، وأن تأثيره على الفرد والمجتمع ليس دوما إيجابيا..

-------------------------------------------
4- بعض المخاوف والأحزان التي تقدمها الأديان..


أ - المراقب الأبدي: الله قد يكون عامل رعاية وأمان، وقد يكون أيضا عامل تخويف وبطش، ليس للأشرار والمجرمين فحسب، وإنما للعصاة أيضا؛ فها هو كائن يراقبك 24 ساعة، 7 أيام في الأسبوع، يرى جميع نقائصك وهفواتك، وهو (حسب النصوص الدينية) دوما غاضب مستعد لعقابك عند أقل خطأ، خاصة في مجالات حميمية مثل الجنس..

ب - جهنم: الدين (على الأقل الإبراهيمية) كما يعد المؤمنين بمكافأة أبدية، فإنه يعد المخالفين والعصاة بجحيم أبدي، يتمثل في عذاب ناري مخيف وبشع، يتضمن زيتا مغليا ومعادن مصهورة وسلاسل وطعام شوكي أو ظلام ودود وصرير أسنان..إلخ؛ وهذا كفيل بإلقاء الكثير من الهلع والرعب في قلوب المؤمنين، خاصة من الأطفال أو الخاطئين..

وحتى لو كنت أنت شخصا مؤمنا يمتلئ قلبه بالإطمئنان تجاه الله؛ فقد يكون لك قريب أو حبيب مات على غير دينك، أو مات في ظروف لا تناسب معتقدك الديني (على سبيل المثال: لي قريبة مؤمنة شديدة التدين مواظبة على الصلاة، توفى ابنها الشاب بسبب جرعة مخدرات زائدة، ولنا أن نتخيل حجم عذابها حين لا تدري ماذا سيفعل الله به)..


ج- احتقار النفس: الدين قد يكون عامل في الشعور بالفخر والمعنى، وقد يكون عاملا قويا في الشعور بالدناءة والوضاعة؛ وذلك يأتي من عدة طرق:
منها أن المبالغة في تمجيد الإله يجعلك تشعر بالضآلة أمامه، فكلما ازداد عظمة ازددت أنت - بالمقارنة - وضاعة..

فذلك السيد المهيمن يغرقك بالنعم التي لا يمكنك أداء شكرها، وهو يتوقع منك استقامة كاملة تعجز عن تحقيقها؛ والنتيجة أن الفارق الكبير بين ما هو متوقع منك كخليفة للإله أو ابنا له (بالمعنى المجازي)، وبين ما أنت قادر على تحقيقه في الواقع، قد يورث مشاعر قاسية من الندم والشعوب الذنب واحتقار النفس..

يزداد ذلك سوءا مع صعوبة الإلتزام الكامل ببعض التكليفات الدينية (مثل الإنتظام في الصلاة الإسلامية، أو التحرر الكامل من الشهوات في المسيحية، وغير ذلك)، كما يزداد مع التهديد المخيف السابق ذكره بالعذاب الأبدي لك، وربما لجميع من تحب..

وعلى سبيل المثال نجد أن الأديان تؤمن بأن الإله مطلق الخير، وبالتالي فهي تحاول تبرئته من جميع الشرور التي تحدث في الدنيا، ومن ثم فهي تنسب أكثر تلك الشرور إلى الفعل الإنساني، والنتيجة أن الإنسان يصير مسئولا عن أكثر المصائب في الدنيا، مما ينتج عنه نظرة شديدة السلبية إلى الإنسان، ذلك الكائن الخاطئ الشهواني الأناني (الذي ورث الخطيئة كما نرى في المسيحية تحديدا)..

ويتماشى احتقار النفس مع احتقار الدنيا، وتصويرها وكأنها مجرد "محطة" مؤقتة للحياة الحقيقية في الآخرة؛ هذا ينتج عنه مظاهر سلبية كثيرة، ويصل إلى ذورته مع استعداد الإنسان للتضحية بحياته (وربما حياة الآخرين) من أجل خدمة القضية الدينية المقدسة..

د - الشعور السلبي تجاه غير المؤمنين: يتناسى البعض أن الدين يقدم الخلاص (أو الجنة) حصرا للمؤمنين بدين معين من الأديان، والنتيجة حرمان أكثر البشرية من تلك النعمة (في القرآن أن أكثر الناس - ولو حرصت- فليسوا بمؤمنين، وفي الأناجيل أن الخلاص هو باب ضيق لا يمر منه إلا قليلون)؛ وينتج عن ذلك مزيجا غريبا من الشعور بالبغض، أو الشفقة الحزينة، تجاه الكفار، حيث سيقوم الإله (العادل) بتعذيب الآخرين فقط بسبب اختلافهم عنا في العقيدة؛ وفي الحالتين (الكره أو الشفقة) هي مشاعر قاسية تؤثر سلبا على صاحبها، وعلى علاقته بالآخرين من ذوي الأديان أو الطوائف المختلفة؛ ونرى ذلك في ساحات الجدال والخلاف الديني المختلفة..
-------------------------------------------

5- هل الدين يضمن الخير، ويمنع الشر، ويقدم أخلاقا جيدة؟
 

 في المجمل لا..
بالطبع هناك نصوص دينية عديدة تحض على قيم إيجابية، مثل الصدق والأمانة والفضيلة والتعاون والكرم..إلخ، كما كان للأديان بعض الدور في إنصاف بعض الفئات المستضعفة؛ كما يقال أن الدين يقدم رادعا قويا للأشرار والمجرمين، حيث يهددهم بعدالة إلهية قادمة لا محالة، حتى لو فشلت العدالة البشرية في القصاص منهم..

ونعقب بعدة نقاط :
أ- أي دين نعني؟ في الحقيقة لدينا عشرات وربما مئات الأديان والمذاهب والطوائف، وكلها تتعارض ويزعم كل منها أنه يقدم الحق الوحيد، كما يطعن كل منها في أخلاقيات الآخرين، فتجد المسيحي يعيب على المسلم تعاليمه الجنسية والحربية، وتجد المسلم يعيب على المسيحي شربه للخمر، وتجد السني يعيب على الشيعي زواج المتعة، وهكذا؛ فأول ما يلاحظ في الأديان أنها لا تقدم نموذجا واحدا للعقيدة أو الأخلاق، والمؤمن لا يذكر كلمة "دين" إلا وهو يتحدث مع اللادينيين أو العلمانيين، ولكنه في العادة يقصد دينه فقط..


ب - عن الدين كمرجع أخلاقي؛ هذا يطرح سؤال: هل نحن (كبشر) قادرون على تقييم الصواب والخطأ من خلال العقل والتجربة؟

فإن كان الجواب بنعم، فما حاجتنا إلى المعيار الديني؟

وإن كان الجواب بلا، أي أننا عاجزون عن تقييم الخير والشر بمفردنا، ففي تلك الحالة كيف نحكم أن الدين يقدم أخلاقا جيدة؟

في كل الأحوال لا يبدو أننا بحاجة إلى مرجعية خارج العقل والحواس والتجربة..


ج- هل الأخلاق مصدرها داخلي (الضمير) أم خارجي (الأوامر والترهيب)؟ وهل يمكن الوصول إلى أخلاق مثلى عن طريق الأمر والنهي؟ أم أن ذلك كفيل بأن يجعل الإنسان، في أفضل الأحوال، بمثابة آلة مطيعة تنفذ أوامر سيدها؟
د - هل ارتكاب الخير انتظارا لجزاء، أو تجنب الشر خوفا من عقاب، يعتبر أخلاقا حقيقية؟ في تلك الحالة فاللص الذي يتجنب السرقة فقط خوفا من الشرطي هو إنسان عظيم يستحق التحية!، وفي تلك الحالة يكون الكلب المطيع لسيده، خوفا من عصاه، هو كائن أخلاقي جدا!
هـ - حين يكون الإله هو مصدر الخير، فإن هذا كفيل بمحو الجانب الإنساني؛ فإن كنا سنلتزم بالخير فقط بسبب أوامر الإله، ألا يعني ذلك استعدادنا لارتكاب الشرور حين نعتقد أنها من أوامر الإله أيضا؟ هذا الحال لا ينطبق فقط على جندي الحروب الصليبية الذي يعتقد أنه يدافع عن دين مقدس، أو على الداعشي الذي يفجر نفسه وهو يعتقد أنه يقوم بخير مطلق، وإنما ينطبق أيضا على شيخ كبير أمسك سكينا وكاد يذبح ابنه، لأنه هكذا أمره الإله، ثم صار ذلك الفعل الإجرامي خيرا، بل صار نموذجا يحتذى عند اليهودي والمسيحي والمسلم..

لهذا يقال أن الأخلاق مضادة للدين؛ فالأخلاق هي أن تفعل الصواب بغض النظر عما يأمروك به، وأما الدين فهو أن تفعل ما يأمروك به بغض النظر عن الصواب..

و - والخلاصة أن الأخلاق الدينية يمكن تسميتها "أخلاق عبيد" فهي لا تقوم على الفهم، أو الحكم الإنساني، أو الضمير الشخصي، أو التعاطف العفوي، أو الإيثار المتجرد الذي لا ينتظر جزاءا، وإنما هي تقوم على الأمر والطاعة العمياء، والطمع والخوف..

قد يقول قائل أن الدين يقدم حوافز راقية للأخلاق، وأما الطمع والخوف بالجنة والنار فهو لأصحاب النفوس الضعيفة معدومي الضمير، والذين يجب ردعهم بالعصا؛ ولكن هذا القول مردود عليه بأن الدين يقدم أعظم الأنبياء والشخصيات الدينية خاضعين للخوف والرهبة من الله، مما لا يجعله أمرا استثنائيا للمجرمين وإنما هو الأصل في الدين..

والأهم من ذلك أن تأكيد الدين على تلك الثنائية (الطمع والخوف) وجعلها هي الأصل، يساهم في تراجع العوامل الأخرى الأرقى (الضمير والتعاطف) حيث يحول الإنسان إلى ماكينة سباق تسعى فقط لطاعة الإله (أو النبي، أو النص المقدس، أو الشيخ) بشكل أعمى، بغرض الفوز في السباق الأخروي ونيل الجنة أو الملكوت..

ز - وأما لو جئنا لمسألة "الردع" الديني، بالجحيم، فسنجد أنه ردع قد ينجح في تعذيب ضمائر المؤمنين الطيبين أصلا، ولكنه غالبا يفشل في كبح جماح شرور المجرمين؛ ويرجع ذلك لعاملين رئيسيين: الأول أن العقاب الديني "مؤجل" فهو يأتي بعد الموت، وبالنسبة لشاب ينوي ارتكاب الشرور فالموت يبدو بعيدا للغاية، ويمكن مقارنة ذلك بنظام شرطي وقضائي يتركك ترتكب ما تشاء، لكنه يتوعدك بأن يعاقبك بعد خمسين سنة، وهو ولا شك تهديد ضعيف بالنسبة لأكثر الناس الذين ينظرون تحت أقدامهم..

وهذا يتصل بالعامل الثاني، وهو أن العقاب الديني قابل للمحو بكل سهولة، عن طريق التوبة والإستغفار، ويمكن مقارنة ذلك بنظام قضائي يترك القاتل حرا طليقا إن وعدهم بعدم تكرار فعلته، ثم إن كررها فالقاضي غفور رحيم مرة أخرى، وهكذا، مما يضعف من تأثير الرادع المزعوم، خاصة إذا تذكرنا طول مدة "السماح" في الدنيا..

والنتيجة أن الرادع الديني يمكن التغلب عليه بكل سهولة، بالنسبة لإنسان ضعيف الضمير..


ح - إضافة لما سبق، فإن تلك الأخلاق الدينية تحتوي مظالم ونقائص أخرى خطيرة، وهي أنها تأتي بعد الإيمان الديني؛ فكما ذكرنا الأديان تمنح الجنة - لا للأحسن أخلاقا - وإنما للمؤمنين بالدين الفلاني والعلاني؛ فلو كنت تمارس القتل والزنا والسرقة فذنوبك مغفورة ومصيرك إلى الجنة والملكوت، طالما أنت على ديننا (الوحيد الصحيح)، وأما لو كنت أحسن الناس أخلاقا وأكثرهم علما وأنفعهم للبشرية، لكنك كنت على دين آخر، فمصيرك الجحيم الأبدي بلا رحمة..

هذا يشبه نظاما قضائيا يحاكم الناس ليس طبقا لأفعالهم، وإنما طبقا لصلتهم الخاصة بالقاضي، فلو كنت قاتلا سارقا لكنك تمنح بعض المال وبعض المديح للقاضي، فسيتم الإفراج عنك وربما تربح وساما رفيعا، وأما لو لم ترتكب أي جريمة وعشت مستقيما، لكنك تتجاهل القاضي ولم تمنحه الإهتمام الذي يستحقه، فمصيرك أسوأ العقوبات؛ والنتيجة فوضى وظلم ولا شك..


وهذا ما نراه: أن المؤمن عادة لا يعبأ بالأخلاق بقدر ما يعبأ بصحة العقيدة والإيمان، وما يتبع ذلك من طقوس؛ فلو ارتكبت جميع الذنوب فتظل أفضل عند الله من زميلك المستقيم القادم من عقيدة مختلفة؛ وأما أنت فيمكنك أن تغش وتسرق، ثم تمنح بعض المال للكنيسة أو تزور السعودية لتطوف حول حجر، حتى تغفر جميع ذنوبك..

ط - والأخطر من ذلك، ومما يتصل به، أن الأخلاق الدينية الطيبة عادة تنصب - حصريا - على أهل الإيمان؛ فالمسلم من سلم "المسلمون" من لسانه ويده، ومن "غشنا" فليس منا..إلخ، وأما الآخرون فلهم الحرب والبراء والبغض والتضييق في الطرقات والجزية، أو في أخف الأحوال يجب الحذر منهم وعدم موالاتهم؛ وفي المسيحية نصوص تؤكد أنه لا يجوز الدخول مع غير المؤمنين "تحت نير واحد"، وهو ما جعل الكنائس تحرم الزواج مع أهل الملل المختلفة؛ وأما في اليهودية فلا حاجة لنسرد العنصرية البشعة التي يلقيها التلمود على غير اليهود وكيف يجب معاملتهم..

والخلاصة أن الأخلاق الدينية تأتي بعد الإيمان وهو الأهم، ثم أن الإيمان قد يغني عنها، والأهم أنها تكون أخلاقا حصرية لأهل الدين فقط، مع وجود معاملة خاصة، قد لا تكون سيئة بالضرورة، وإنما على الأقل يشوبها الحذر والتحفظ، تجاه أهل الأديان الأخرى..

-------------------------------------------
6- بعض الشرور التي تقدمها الأديان..

قلنا أن الأديان قد لا تنجح في صنع خير كثير، كما قد لا تنجح في ردع شر كثير؛ ولكن يضاف إلى كل ذلك أن الأديان أحيانا تأمر بالشر، وبعضها شرور لم يكن الإنسان ليرتكبها بلا أديان..

أ- من ذلك أن كراهية المخالفين من أهل الأديان الأخرى (الكفار) يمكن أن يؤدي، وبالفعل أدى، إلى حدوث حروب دينية خارجية أو إلى حروب أهلية داخلية، وقد رأينا ذلك في ما لا يحصى من الأمثلة، منها الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وفي حروب الكاثوليك والبروتستانت بأوروبا خاصة القرن 17، وفي أيرلندا حديثا، وغيره ؛ وفي أخف الأحوال يمكن لتلك الكراهية أن تسبب احتقانات وتشاحنات داخل المجتمع الواحد..

فهل من الممكن أن تصلح العلاقة بين شخصين، يعتقد كلا منهما أن خالق الكون (العادل جدا) يكره الآخر، أو حتى أنه أضله عمدا؟

وقد يقول قائل أن الحروب المسماة دينية لها أسباب أخرى، مثل الأطماع السياسية، وأن الأديان لم تكن سوى ستارا يخفي الأغراض الحقيقية لتلك الحروب؛ ولكن إن صح ذلك الطرح، ألا يثبت أن الدين هو أداة ملائمة جدا لتبرير الحروب، بحيث أن كل صاحب طمع يجدها في متناولة، ويستخدمها بشكل فعال جدا لحشد الكراهية وحث الشباب على التضحية بحياتهم؟

ب - وفي أحوال عديدة يقترن تدين الدولة مع ميلها لقمع المعارضين واضطهاد المخالفين، ليس فقط على المستوى السياسي (وهو أمر طبيعي لدى جميع الدكتاتوريات) ولكن أيضا على المستوى الفكري والعقائدي، بما يشمله ذلك من هدم دور العبادة والمدارس وحرق الكتب..إلخ، وهو ما فعلته المسيحية مثلا تجاه الأديان الوثنية خاصة في القرن الخامس..

ج - بشكل عام الأديان - كونها تنتمي إلى ثقافات قديمة، وغالبا بدوية - فهي بطبيعتها تحتقر المرأة وتهمش من دورها، ولا تساوي بينها وبين الرجل في الإنسانية أو القيمة، والنصوص الدينية تمتلئ بأحكام ظالمة منحازة ضد النساء عموما..

د - الأديان - غالبا- قامت بمعاداة العلم والعلماء والفلاسفة وكل صاحب فكر حر؛ فبطبيعتها تميل إلى المحافظة والنظام السياسي والإجتماعي القائم على وحدة العقيدة؛ وبالتالي تعتبر كل فكرة جديدة خطر يجب مواجهته، ليس بالمنطق والحجة طبعا، وإنما بالبطش والقمع والحرق في أحيان كثيرة، كما فعلت أوروبا الكاثوليكية (وأحيانا البروتستانتية) بالقرون الوسطى..

هـ - في أحيان كثيرة قامت الأديان بمعاداة الفنون، كما فعل الإسلام حين حرم الرسم والتماثيل والموسيقى؛ والتي يتم ربطها بالوثنية والشيطنة؛ ومن يدرك أهمية الفنون في تهذيب النفوس، بل وأثرها الهام في تنشئة أطفال أذكياء، كما تدل العديد من الأبحاث النفسية الموثقة، يدرك مدى خطورة تهميش الفن أو تحريمه، وتأثير ذلك سلبا على مستقبل -وأخلاق- الأمم..

و - الدين يقوم على الإيمان بالغيب، وبالتالي فهو يفتح الباب للإيمان بطوفان من الغيبيات، مثل السحر وتلبس الجن أو الأرواح الشريرة؛ مما يمثل مجالا خصبا لنمو الجهل والخرافة، كما يمثل أرضية خصبة لتضخم الدجالين والمشعوذين، كما نرى في جميع المجتمعات المتدينة..

ز - وبالإضافة للضرر المباشر لانتشار الخرافات في مجتمع من المجتمعات، إلا أن هناك ضررا غير مباشر لكنه خطير، ألا وهو إهمال العلوم؛ ففي مجتمع يؤمن بأن السحر يسبب الأمراض هو مجتمع لن يأخذ المريض إلى طبيب، وإنما إلى دجال أو مشعوذ؛ كما أن ذلك المجتمع سيفقد عقله ويميل إلى أن يكون مغيبا، ولن يأخذ بأسباب العلوم في أي من المجالات..

ح - كل ذلك يعني أن التدين يعوق تقدم المجتمع على المستوى العلمي والإنساني؛ وتاريخيا نجد أن الأديان تحالفت دائما مع السلطة، وساهمت في تكريس أوضاع كثيرة ظالمة، فكان للمسيحية والإسلام دور في استمرار العبودية، كما كان للهندوسية دور في تكريس النظام الطبقي البشع الذي ساد في الهند..

(مع ملاحظة أن كل ما مضى لا يعني التعميم؛ بل يمكننا إيجاد مجتمعات اتسمت بالتدين وكان بها علماء وفلاسفة، بل وعبر تاريخ البشرية كان هناك أخلاقيين وعلماء وفلاسفة مؤمنين بالإله، وربما بالأديان؛ ولكن كلامنا هنا على سبيل الترجيح والتغليب؛ فلا شك أن هناك علاقة إحصائية بين انتشار التدين في مجتمع ما، وبين غياب التفكير العلمي والتنويري من ذلك المجتمع، كما لا شك أن المجتمعات التي تتحرر من سلطة الدين على الحكم وعلى العقول تتقدم أكثر من غيرها؛ بالتالي إن كنا لا نقول أن الأديان كلها شر، فيمكننا القول بثقة أن الأديان تجاوزها العصر)..

ط - الأديان تمتلئ بأحكام مخالفة ورجعية، لكل ما اصطلحنا على تسميته بأخلاق؛ من ذلك ظلمها ضد المخالفين عقائديا كما ذكرنا، وضد النساء، وضد العبيد، وضد التفكير الحر عموما، ومن ذلك احتواءها على أحكام همجية لم تعد تصلح لعصرنا (إن سلمنا بأنها كانت تصلح لعصرها) مثل الرجم والجلد وبتر الأعضاء، ومثل إصرارها على التدخل في تفاصيل حياة الناس بشكل عملي، ومثل تركيزها على التوافه في حالات كثيرة، فتخبرنا ماذا نلبس وماذا نأكل وكيف ندخل إلى دورات المياه، وكأن البشر هم أطفال يجب قيادتهم تفصيلا في كل صغيرة وكبيرة، أو كأنهم أوغاد أشرار بطبعهم يجب تخويفهم بشكل دائم..

ي - ولو أخذنا الإسلام على سبيل المثال، وهو الدين الغالب في مجتمعاتنا، والذي يرى أتباعه أنها ستنهار إن اختفى الدين أو تراجع أثره، نجد أن ذلك الإسلام يحتوي أحكاما ظالمة مثل الجهاد (وهو غزو غير شرعي بمقاييسنا اليوم)، ومثل الغنيمة والفيء وفرض الجزية وغيرها من استباحة أموال الناس، ومثل العبودية والسبي (وتجارة البشر لحسن الحظ صارت ممنوعة دوليا، وإن ظلت تمارس في بعض الأماكن)، ومثل زواج الأطفال وهو جريمة في كل الأعراف اليوم، ومثل ظلم النساء في مسائل مثل الميراث والشهادة والدية والتعدد..إلخ، ومثل ظلم "الكفار\أهل الكتاب" في مواضع عديدة، حيث أن الفقه عموما لا يساوي بين المسلم والذمي، إلى غير ذلك من المظالم المخالفة لقيم الإنسانية الحديثة..

-------------------------------------------
7- البديل اللاديني..

أ- إذن، فهل غياب الدين يسبب فراغا نفسيا للمرء؟

ربما نعم، وربما لا، (تذكيرا بنقطة 2) وذلك على حسب تكوينك وتنشئتك؛ ويمكن هنا اللجوء إلى التشبيه الشهير للدين بأنه كالأفيون، أو المخدر؛ حيث نعلم أن احتياج الشخص للمخدر يختلف باختلاف طباعه، فهناك ما يسمى "الشخصية الإدمانية"، كما يختلف باختلاف اعتياده على ذلك المخدر، فالذي يتناول الأفيون قد يرى أن ذلك المنتج هو معنى حياته وسر الوجود، وهو السعادة التي لا سعادة دونها؛ ولكن نعرف أن الأمر يختلف مع الشخص "الطبيعي" الذي لم يدمن، فهو لا يهتم بوجود المخدر من عدمه، ولا يعني له الكثير؛ وكذلك الحال مع الدين، هو مهم ومريح فقط لمن اعتاده منذ الطفولة، فردا أو جماعة..

ب- فهل هناك بديل؟ حتما..
نعلم أن الدين يقدم الخلود ويقدم اليقين ويقدم الراحة النفسية ويقدم إجابات جاهزة لكل سؤال؛ هذا الوضع ينتج أطفال العقول، يطلبون السعادة والراحة في كل شيء..

ولا بديل عن ذلك إلا النضج؛ وتعريف النضج بكلمتين هو "قبول الواقع"، أو لنقل رؤية الأمور في حجمها، والتكيف مع ما لا يمكن تغييره من الواقع..

ربما لا نمتلك الكمال، ولكن بإمكاننا أن نستمتع بالناقص..


ربما لا نمتلك الخلود واليقين والأجوبة الجاهزة المعلبة، والساذجة؛ ولكن بإمكاننا تعلم الإستمتاع بالحياة الناقصة، التي تكمن روعتها في كونها محدودة، وبالمعرفة الناقصة، التي تزداد باستمرار..

كما يمكننا أن نجد عزاءا وسعادة في كثير من الأمور، العلوم والفلسفة والموسيقى والتأمل الذهني..إلخ، وعلى سبيل المثال فالفلسفة الرواقية، وإلى حد ما البوذية، تقدم أفكارا جميلة تمكن الإنسان من التأقلم مع صعوبات الحياة، بشكل واقعي لا وهمي، متواضع لا مغرور..

تلك البدائل ممكنة، ويمارسها الكثير من البشر، ولا يرفضها إلا إنسان اعتاد على وهم الكمال، فلم يعد يقبل بالواقع؛ مثل المدمن الذي يرفض أي بديل لمخدره الأثير..

وأما بالنسبة للبعض الآخر، فسعادة ناقصة واقعية، مع حيرة وشك وتعلم مستمر، تظل أفضل من اليقين والراحة الكاملة، لأن المتع في عمر النضوج تظل أكثر عمقا من سعادة الأطفال الساذجة، والتي لا يمكن لمن بلغ الرشد الرجوع لها على أية حال..


ب - إذن، فهل غياب الدين يهدم الدنيا؟

لا؛ وإضافة لكل التنظير السابق عن فشل الدين كرادع من جهة، وإسهامه في إفساد الكثير من جوانب الأخلاق من جهة أخرى، فالأهم هو الواقع الذي يخبرنا أن هناك الكثير من الأمم التي تخلت عن حكم الدين، مثل الدول الغربية، أو التي لم يكن الدين (بمعناه الإبراهيمي) يحتل حيزا ذو شأن في حياتهم، مثل اليابان والصين، ونجد أن تلك الأمم بخير من الناحية الأخلاقية، إذا ما قورنت بالشعوب الأكثر تدينا..

وحين نرى الإحصائيات، نجد أن قائمة "أقل الدول تدينا" تشمل السويد والنرويج واليابان وهولندا وهونغ كونغ..إلخ، كما نجد أن "أكثر الدول تدينا" تشمل ملاوي والنيغر واليمن والصومال وأفغانستان..إلخ، وأكثرها دول تسجل معدلات منخفضة ليس فقط على المستوى العلمي والإقتصادي والسياسي، وإنما على المستوى الإنساني والأخلاقي، وفي مقياس السلم الإجتماعي؛ ومن هنا يصعب القول أن الدين يحفظ المجتمعات، أو يحرض على مكارم الأخلاق..

على سبيل المثال، بينما نجد بعض الدول الإسلامية تتحمس في القطع والجلد للعصاة، والسجن لأصحاب الرأي، وتعلن الحرب على المذاهب المارقة، نجد أن دولا مثل السويد أو هولندا تغلق سجونها تباعا، نظرا لانخفاض عدد المجرمين؛ وهذا لا يعود لرفاهة تلك الدول فحسب، وإنما لحسن معالجتها للخارجين على القانون، بأشكال لم يكن يحلم بها أنبياء الأديان وفقهاؤها..

وعلى مستوى أكثر تحديدا، تخبرنا الإحصائيات (في الولايات المتحدة مثلا) أن نسبة الملحدين بين السجناء قليلة، بالقياس إلى عددهم في المجتمع الأمريكي..
كما تخبرنا إحصائيات أخرى أن الأطفال الذين نشأوا في أسر لادينية يكونون أكثر كرما..

ولا يرجع ذلك إلى أن الدين - بالضرورة وبشكل مباشر - يحض على الأخلاق السيئة؛ وإنما لأنه بشكل غير مباشر يجعل الإنسان يستمد أخلاقه من مرجعية خارجية متمثلة في نص مقدس، فيطغى على دور العقل والحس والضمير الداخلي، ويمنع نموها بشكل سليم، ثم أن التدين يقدم الإيمان على الأخلاق، فيجعل المعتقد والطقوس سبيلا للتحلل من المسئوليات الأخلاقية، خاصة مع الإيمان بإله غفور رحيم لطائفتنا، ثم أن ذلك الإله غضوب منتقم من الطوائف الأخرى، الأمر الذي يقسم البشر إلى مؤمنين طيبين وكفار أشرار، وينعكس على التعامل مع الآخرين على كافة المستويات..

أما بعد؛ فالأديان تاريخيا امتازت بأنها احتكرت كل جوانب الحياة البشرية، فيوما ما كان الدين يحتكر تفسير الوجود، والحياة، ووجود الإنسان على الأرض، كما كان يحتكر إدارة الحكم والإقتصاد، وأحوال الزواج والطلاق والإنجاب وتنشئة الأطفال، وكان الكهنة يمنعون الكتب والتعليم عن سائر الشعب، تاركين إياه في أمية تسهل لهم السيطرة على مقاليده؛ ثم رويدا تحرر الناس وبدأ فصل الدين عن نواحي الحياة، فظهرت العلوم الطبيعية والإنسانية، الفلسفة والفيزياء والكيمياء والسياسية والإجتماع والإقتصاد، تبحث الأمور وتفسرها بعيدا عن سلطة رجال الدين؛ فصرنا نفسر الكون بالمعايير الفيزيائية بعد أن كنا نلجأ إلى الأنبياء، وصرنا نفسر الأمراض طبيا بالرجوع إلى علوم الفايروسات ووظائف الأعضاء والجينات، بعد أن كنا نلجأ إلى الكاهن والشيخ..إلخ..

واليوم يحاول رجال الدين التمسك بالأرضيات القليلة التي بقيت ملكا لهم، لم تقتطعها منهم العلوم العلمانية؛ وربما آن الأوان كي نحرر الأخلاق أيضا من سلطان الدين وأهله..
وكما يقال: إن كان في الدين ما يخالف العقل، فيجب رفضه..

وإن كان في الدين ما يوافق العقل، فقد عرفناه بالعقل، وبالتالي لم تعد لنا حاجة لأن نستلهمه من نصوص كتبها رجال لم يكونوا يعرفون أن الأرض كروية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق