السبت، 1 يونيو 2019

عن الإصلاح الديني



1- ما هو الإصلاح الديني؟

كل من يعلم شيئا عن الإسلام وعن العصر يدرك وجود تضاربا وتعارضا بين الإثنين..

هذا التضارب ينطبق على العلوم (مثلا قصص الخلق مقابل نظرية التطور، والطب النبوي مقابل الطب المعاصر) كما ينطبق على السياسة (الخلافة مقابل الجمهوريات)، وعلى الإقتصاد (أمور مثل الربا والبنوك)، والقانون المحلي (العقوبات البدنية مقابل السجن الإصلاحي)، والقانون الدولي (الجهاد والإرهاب مقابل الحدود والسلام العالمي)، والإجتماع والفكر وحقوق الإنسان (حد الردة وحرية العقيدة، والذمية مقابل المواطنة، وقوامة الرجل ودونية المرأة مقابل المساواة)..


ويأتي الخلاف في كيفية التعامل مع ذلك التضارب، فالأصولي المتمسك بدينه حرفيا يريد تغيير العالم - بالقوة أو بغيرها- ليلائم النص المقدس، مما يؤدي إلى إرجاع عجلة الزمن إلى القرن السابع..
وأما العلماني فيقف على الجانب المقابل، إذ يطالب بتنحية الدين جانبا عن الحياة السياسية والإجتماعية داخل الدولة، وتطبيق قيم العصر كما هي..


وأما من يسمون بالمعتدلين أو المصلحين، فهم الذين إلى التوفيق بين الدين والعصر، وهم يتخذون في ذلك السعي مناهج مختلفة، بعضها يتفق مع العلمانية..
-----------------------------------

2- هل الإصلاح ضرورة؟

بالقطع نعم، بل يمكن القول أن جميع مشاكلنا المعاصرة ترتبط - بشكل أو بآخر- بالفكر الديني السائد في بلادنا، والذي يساهم - إلى جوار عوامل أخرى سياسية أو اجتماعية - في زيادة معدلات التطرف والإرهاب والإحتقان الطائفي، كما أنه يساعد على ترويج أفكار سلبية بالمجتمع مثل التواكل والقدرية واحتقار المرأة ونظرية المؤامرة وومعاداة الحريات والمساواة وقبول الدكتاتورية والسير وراء الدجل والشعوذة، كما يقف عائقا أمام كل أشكال التطور السياسي والإقتصادي والإجتماعي..
-----------------------------------

3- هل الإصلاح ممكن؟
الجواب يتوقف على المقصود بكلمة الإصلاح، فلو كان المعنى هو تغيير الدين كله وتبديل النصوص فهذا يبدو شبه مستحيل، وأما لو كان المقصود أن يتم تهذيب الفكر والمؤسسات الدينية لكي لا تعوق حياة البشر فهذا يبدو ممكنا، وقد حدث - بدرجات متفاوتة- مع كل الديانات، بما فيها اليهودية والتي تتشابه مع الإسلام ولا تقل عنه تعصبا وتدخلا في حياة البشر، بل وحدث مع الإسلام نفسه في بعض الفترات وفي بعض البلدان..


مع ملاحظة أن الحديث عن نجاح الإصلاح لا يعني اختفاء الأصولية والتطرف، فهذا لم يحدث مع أي دين، وإنما المقصود فقط هو تقليصهما وحصارهما بشكل يسمح باستمرارية حياة المجتمع ونجاحه كما أشرنا..
-----------------------------------

4- ما هي مناهج الإصلاح؟

المفكرون المسمون "إصلاحيون" يتخذون عدة مناهج مختلفة..

منها منهج التنقيح والذي يقوم على الإستبعاد الإنتقائي للنصوص الفقهية وربما الأحاديث التي يراها المصلح غير مناسبة لقيم العصر أوحتى جوهر الإسلام من وجهة نظره..


ومنها منهج الترقيع والذي يقوم على إعادة تأويل النصوص بشكل مستقل عن التراث الفقهي وأحيانا يتعارض معه..


ومنها منهج التأريخ الذي يقسم النصوص إلى قسم روحي صالح لكل زمان، وقسم تشريعي محصور بزمنه فقط ولا ينبغي تطبيقه اليوم..


فلو أخذنا مثال الحديث المنسوب إلى محمد والقائل "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله..إلخ"، فيمكن محاولة إصلاح ذلك الحديث عن طريق رفض صحة نسبته إلى محمد، أو عن طريق الإعتراف بصحته ولكن إعادة فهم معناه بأن المقصود هو قتال المعتدين فقط، أو عن طريق الإعتراف بصحته ومعناه والقول بأن هذا الحكم كان يخص تلك الحقبة الزمنية فقط ولا يصلح لعصرنا..
-----------------------------------

5- ما هي مزايا وعيوب كل منهج؟

منهج التنقيح يمتاز بأنه يقلص حجم المقدس فينزع الكثير من النصوص التراثية فيحل الكثير من المشكلات من جذورها، ولكن من عيوبه أنه انتقائي يتبع أهواء المصلح بدلا من اتباع منهج موضوعي محدد..


منهج الترقيع يمتاز بأنه مرن يجعل كل مسلم منوط بفهم النصوص كما يشاء هو، ولكن من عيوبه أنه يفترض أن جميع السابقين من صحابة وتابعين وفقهاء أخطأوا في فهم بعض النصوص، وهو فرض يصعب تصديقه وقد يبدو خطرا على الدين كله..
منهج التأريخ يمتاز بأنه يتخطى الخوض في المهاترات حول صحة النصوص وتأويلاتها وإنما يضع الحكم كله جانبا مما يجعله أقرب إلى روح العلمانية، ولكن من عيوبه أنه بالإسلام يصعب وضع خط فاصل بين العبادات والتشريع فهم متداخلان، ورفض جانب من الدين قد لا يعجب المؤمن لأن هذا يهدد برفض الدين كله..
ثم هناك بالطبع منهج اللادينية، والذي يرفض سلطة الدين بأكملها، ومن مزاياه أنه يتخلص من المشكلة برمتها دفعة واحدة، ولكن من عيوبه أنه - حتى الآن- يبدو محدود التأثير ويصعب تطبيقه على المجتمع بأكمله..


وبشكل عام، فمن مزايا حركات الإصلاح أنها أنزلت النص الديني إلى ساحة النقاش العام، وجعلت المسلم العادي يفكر، مما يمهد لسحب البساط من تحت أيدي الكهنة والفقهاء التراثيين والمؤسسات الدينية الرسمية المحافظة، وهذا يشبه ما فعله البروتستانت في أوروبا منذ القرن السادس عشر، ولكن هذا الفعل نفسه سلاح ذو حدين، إذ أننا نرى أن حركات الإصلاح تلك تقوم على جهود الأفراد، والذين ينجحون بمقدار ملكاتهم وكاريزماتهم الشخصية، بأكثر مما تقوم على منهج واضح كما هو الحال مع التراث الذي بنى منهجا ضخما يستند إلى مراجع قديمة أكثر ديمومة من الأفراد..
-----------------------------------

6- بأي منهج سيتم الإصلاح؟

ربما بالكل: بالتنقيح والترقيع والتأويل والتأريخ، وبالعلمنة واللادينية، وبالصوت الهادئ المهادن وكذلك بالصوت الحاد الساخر، فالحق أن البشر يختلفون وكل مسلم لديه طباع وعقلية معينة تجعله يقتنع بنهج معين، وبالتالي أرى أن التعددية مطلوبة وأختلف مع الذين يظنون أن هناك منهج نقدي واحد هو الذي يجب أن يسود وتختفي الأساليب الأخرى، فكل حجر يلقى بالمياه الراكدة هو مكسب، والتغير سيحدث بالكل..
-----------------------------------

7- من أين سيبدأ الإصلاح؟

كالعادة هناك نظريتان بشأن تغير فكر المجتمع: واحدة ترى أن التغيير يبدأ من الأعلى أي الحكام والنخب، وأخرى ترى أن التغيير يجب أن يبدأ من الأسفل أي الطبقات الدنيا وعامة الشعب..


وأرى أن طبيعة بلادنا وكذلك التجارب الأخرى ترجح كفة التغير من أعلى، فالعوام لا يأخذون المبادرة وهم بالعادة يميلون إلى الوضع القائم والمحافظة، وحتى الثورات تقودها بالعادة الطبقات الوسطى والمثقفة، وتحديدا في عصرنا وبلادنا فالدولة صارت تتحكم بكل شيء وهي الطرف الأقوى في المعادلة، أعجبنا ذلك أو كرهناه..
يضاف إلى ذلك مغالطة نقع فيها أحيانا حين نعتقد أن التغييرات تحدث عن طريق الكلام فقط، وهو غير صحيح، فمهما كان الكلام منطقيا أو مقنعا إلا أنه لا يحدث تأثيرا بالمجتمع إلا حين تكون التربة ملائمة، وحين يقال من الفم المناسب ويصل إلى الأذن المناسبة..
وكما أن الدين أصلا لم ينتشر بالكلمة وحدها، وإنما بالغزو وفرض القوانين وتغيير العادات، فكذلك تقييد الدين لن يتم بالكلمة وحدها وإنما بقوة الدولة وقوانينها، وهذا ما تؤكده التجربة، فالتطورات التي حدثت في بلادنا مثل وقف العبودية وتعليم النساء وإصلاح التشريعات وتبني الطباعة والإنترنت..إلخ، هي أمور لم تحدث إلا بسلطان الدولة الواعي، ولو أننا انتظرنا تأييد المشايخ أو حتى موافقة العوام لما تم أي تطوير..


بالتالي أرى أن الخطوة الأولى للإصلاح في بلادنا يجب أن ترتبط بإعادة النظر في مناهج التعليم والإعلام والقوانين، وبعدها سيتغير فكر الناس..


وأهم عناصر الإصلاح برأيي هي العلمنة، فالمطلوب قبل إصلاح الدين هو أولا تنحيته عن النظام الحكومي والقانوني، لأنه من ناحية يستحيل أن نرهن حياتنا بدين خاصة تحت الإصلاح، ومن ناحية أخرى ففرض قيم العصر هي أفضل وسيلة لجعل الأصولي يعيد حساباته..
هذا يطرح عدة أسئلة: ومن أين ستأتي تلك الحكومة الواعية؟ وما الذي سيجعلها تؤيد الإصلاح وليس المحافظة أو التطرف؟ وهل هذا الكلام يعني أن المصلحين والمفكرين ليس لهم دور؟
والجواب بنظري يكمن في ما يمكن تسميته الخطوة صفر، وأسميها كذلك لأن تأثيرها معنوي غير ملموس لكنه مهم، وهي المتمثلة في خلق تيار نخبوي واعي من المثقفين الذين يتحدثون بإسم الإصلاح ويطرحونه على المجتمع والدولة، ويعملون بمثابة العقل والضمير لرجال السياسة ويقنعوهم أن الإصلاح يخدم المصلحة العامة للجميع إذا تم بشكل ذكي لا يتصادم مع الرأي العام، وحين ينجح المثقفون في إقناع الدولة والنافذين بذلك فهنا سيبدأ الإصلاح..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق