السبت، 1 يونيو 2019

عن الشتم



حوار مع صديقي المهذب..

يقول الصديق ضد: ألم تر تلك الكوارث اللفظية التي تصادفنا كل يوم على فيسوك؟

يسأله مع: أي كوارث يا أخي؟!

ض: المنشورات، أصبحت تعج بالشتائم والبذاءات والألفاظ القذرة التي يستحي منها الإنسان!

م: ألا ترى أنك تبالغ قليلا؟

ض: أقسم لك لا مبالغة، بل اليوم لا أكاد أقرأ منشورا اجتماعيا أو سياسيا، إلا وهو يمتلئ باللعن وتوزيع السباب وذكر أعضاء الأمهات والإخوات بالسوء..

م: طيب، وما المشكلة في ذلك؟

ض: هل تمزح؟ أقول لك كوارث وليست مشكلة واحدة!

م: هات أسمعك..

ض: أول مشكلة هي أخلاقية، فاستخدام تلك الألفاظ السيئة علنا لا يليق، ويؤكد أننا صرنا نفتقد التهذيب والحياء ولياقة التخاطب..

م: يا أخي هذا الطرح يفتح الباب لأسئلة كثيرة : مثل ما هو التهذيب؟ ومن وضع معيار الأدب واللياقة؟ وهل الأعضاء الجنسية تختلف عن أية أعضاء جسدية أخرى؟ والأهم: هل أنا - الشاب- ملزم باتباع معايير الكبار لما هو صائب وخاطئ؟

ض: ألا ترى إنك تسفسط قليلا؟ التهذيب واللياقة مسألة عامة وثابتة تلزم الجميع، وتعني مراعاة الآخرين ومشاعرهم والإطار العام للمجتمع الذي نعيش فيه..

م: اسمح لي بالإختلاف معك، فمعايير التهذيب نسبية تختلف من مجتمع لآخر، مثلما تختلف معاني الإشارات والإيماءات التي قد تكون عادية في مجتمع وتعتبر بذيئة في مجتمع آخر.. فمثلا في بعض المجتمعات يقوم الإبن الشاب بالإنحناء لتقبيل يد والده ولا يجرؤ على الجلوس أمامه، بينما في مجتمعات أخرى يجلس الإبن واضعا ساق على ساق أمام والده وربما يقوم بالتدخين بلا حرج.. وهذا يعني أن معايير التهذيب تتغير وتتطور أيضا مع تغير العادات والتقاليد، كما تتطور الأغاني والملابس، وهو ما يحدث مع استخدام ألفاظ معينة، فما كان عيبا في الماضي لم يعد كذلك الآن بين الأجيال الجديدة..

ض: حتى لو صح ما تقول، فهذا لا يعفي الشخص من التزام معايير التهذيب السائدة في مجتمعه..

م: وهل معايير مجتمعنا هو الأدب فعلا؟ ألا تسمع تلك الألفاظ -وأقذر منها- بالشارع؟

ض: هذه من أمراض العصر، ويفترض بالشخص المثقف أن يسعى لرفع مستوى مجتمعه لا أن ينحط إليه..

م: ولكن ماذا لو أنني لست مصلحا اجتماعيا وإنما أريد التعبير فقط عما في نفسي وبالشكل الذي يريحني؟ بل ماذا لو كنت لا أعترف بمعايير مجتمعي أصلا بل أريد التمرد عليها وربما تغييرها؟ ألا ترى أن الأجيال المحافظة يتحكمون في كل تفاصيل حياتنا ويفرضون علينا معاييرهم الخاصة بالمنزل والشارع، فهل تريد لهذا التحكم أن يمتد إلى المنفس الوحيد الذي نعبر عن أنفسنا من خلاله، وهو بضع كلمات على الفضاء الإفتراضي؟

\ض: وهل لم تجد وسيلة للتمرد سوى قلة الأدب؟ وألا تراعي وجود أطفال وفتيات يستحين من تلك الألفاظ المتدنية؟

م: لو أنك تعيش بنفس القرن الذي نعيش فيه لأدركت أن الأطفال والفتيات صاروا يستخدمون تلك الألفاظ أيضا، فحتى تلك الفضيلة السخيفة الخانعة الخانقة المسماة بالـ"حياء" صارت موضة سلبية عتيقة من مخلفات الماضي البائد، وحان وقت التخلص منها..

ض: هذا يؤكد أن الكارثة أكبر مما توقعت وتتعدى مسألة الألفاظ، كما يؤكد أن فضاء الإنترنت الجديد يمنحكم حرية هائلة أكبر من حجمكم، بحيث أنكم لا تعرفون كيفية التعامل معها والإستفادة منها سوى بالضجيج والصراخ كالأطفال، فينطبق عليكم المثل المصري "هبلة ومسكت طبلة"، وهذا يؤكد أنكم لا تدركون حتى المعنى الحقيقي للتمرد..

م: بل هو يؤكد أنك لا تعرف المعنى الحقيقي للحرية، فهي لا تعني أن أتكلم وأعبر بشكل يرضيك أنت، وإنما يرضيني أنا، وهذا قد يتضمن أمورا تراها أنت عبثية، مثل قلة الأدب أو السخرية أو حتى العدمية..

ض: الحرية ليست هدية مجانية تأتيك مع الولادة، وإنما هي مسئولية يأخذها من يستحقها، وأما لو وضعت في الأيدي الخاطئة فستخرب المجتمع، فبئس الحرية!

م: المجتمعات لا تخرب بالحرية والتنوع والتعددية، وإنما تخرب بالقمع وهيمنة المحافظين ومحاولة قوبلة الناس في هيئة واحدة.. والألفاظ البذيئة لا تضر بالمجتمع كما تضره أمور تسكتون عنها مثل الدكتاتورية والفساد والمحسوبية..إلخ..

ض: هذه مغالطتان- رنجة حمراء ورجل قش- معا، فأنا لم أنكر ضرر تلك الأمور الأخرى، والمغالطة الأخرى أنك تقرن الحرية بالشتم، والذي يظل يحمل أضرارا أخرى كبيرة..

م: مثل ماذا؟

ض: مثل استحضار الكراهية ونشر التعصب في الفضاء الإفتراضي، فإذا كنا مختلفين بالرأي، وكانت وسيلتي للتعبير عن رأيي هي توجيه السباب للسيدة والدتك، فهذا سيدفعك للرد بذكر السيدة والدتي أيضا، وهذا يضيع أي أمل في التحاور العقلاني البناء الذي يقوم بالأساس على الإحترام المتبادل والإستعداد للإستماع المتفهم للمختلف..

م: هذه قد يكون معك فيها بعض الحق، ولكن من قال أن كل وجهات النظر جديرة بالإحترام أصلا؟ ألا ترى أن بعض الآراء بل وبعض الأشخاص يستحقون الشتم على كل حال؟

ض: ليست مسألة استحقاق وإنما مسألة جدوى، فما الذي يحققه الشتم بتلك الحالة إلا التنفيس عن مشاعر البغض والحقد، واستفزاز الآخر للرد بالمثل؟

م: ليكن، ولكن حتى هذا التنفيس العاطفي، نحن نحتاجه وإلا لما لجأنا إليه..

ض: ثم إن كثرة السباب تؤدي إلى ظاهرة أخرى خطيرة لا ينتبه لها أحد، وهي العجز اللغوي..

م: ما المقصود بهذا؟

ض: لو اتفقنا أن الثقافة والفكر هما ضمير ووعي الشعوب، فلنتذكر أننا نفكر عن طريق الكلمات، أي أن اللغة ليست فقط تعبر عما بداخلنا، ولكن العكس أيضا يحدث، فحصيلتنا وعمقنا اللغوي يساعدنا على تشكيل أفكارنا داخل الرؤوس.. وهنا أرى أن كثرة استخدام الشتم تجعل الإنسان أشبه بطفل أو مراهق لا يجيد التعبير عن أفكاره إلا بكلمات فجة قليلة مكررة تحمل شحنات انفعالية سلبية كارهة، بأكثر مما تحمل نقدا أو فكرا أو دقة أو موضوعية، ومع الوقت لا تصبح مشكلة تعبير فقط وإنما مشكلة تفكير أيضا، فيعتاد الشخص على التفكير بشكل مبسط انفعالي أبيض\أسود، يعبر عن مشاعره بأكثر مما يعبر عن أفكار موضوعية يمكن الإستفادة منها..

م: جيد، ولكنك هنا تفترض أن الشخص الذي يستخدم الألفاظ التي تسميها بذيئة هو بالضرورة شخص سطحي أجوف، فخلقت بدورك ثنائية زائفة، ولكن الحقيقة أنه ليس كل من يشتم يكون سطحيا كما ليس كل مهذب عميق، بل إنني أقرأ الكثير من المنشورات التي تحمل معا لغة بذيئة وفكرا ممتازا، فلا تناقض هنا كما تظن..

ض: صحيح، ولكني أعتبرها استثناءات، وأصر على أن كثرة الشتم غالبا تشبه الطفل الذي لا يستطيع أن يصيغ مطالبه أو احتجاجاته في شكل كلمات واضحة محددة، فيملأ الدنيا صراخا لكي يلفت الإنتباه لنفسه، أي أننا مرض فكري أصابنا بسبب هذه الموضة البغيضة التي تؤدي إلى إشاعة الكراهية وتقديم العاطفة على العقل وضياع اللغة ومعها الفكر..

م: صارت بضع كلمات غاضبة نكتبها على فيسبوك هي السبب في ضياع الأمة الآن يا شيخ؟ ونعم الرأي!

ض: لم أقل هذا يا فتى، وأراك تتعمد استفزازي، فاذهب بعيدا عن وجهي قبل أن تسمع ما لا يرضيك..

م: لن تفعل ذلك، فأنت ضد السب والشتم..

ض: وقد بدأت أندم على هذا منذ الآن..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق