السبت، 1 يونيو 2019

المنهج العلمي والإحتكام إلى الواقع


في 28 يناير 1986، الساعة 11:39 بتوقيت شرق الولايات المتحدة، تحطم المكوك الفضائي الأمريكي تشالنجر، منفجرا بالسماء بعد إطلاقه بـ73 ثانية، وساقطا قرب ساحل فلوريدا بالمحيط الأطلسي، مما أدى إلى مقتل جميع أفراد الطاقم المكون من سبعة أفراد..

وبعد الصدمة ثم حالة الحداد والألم التي عاشتها البلد، متجسدة في عدة خطابات مؤثرة معزية للرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وبعد الإنتهاء من أعمال انتشال الحطام والأنقاض من تحت المياه، ومعها الأشلاء التي تم إعادتها إلى الأهالي ثم دفنها مع مراسم حزينة مهيبة، بدأت إجراءات التحقيق لمعرفة سبب الكارثة..

تم انتقاد وكالة ناسا بسبب تكتمها ورفضها الإنفتاح على الإعلام، والنتيجة أن الصحافة بدأت تتكهن بما حدث، فخرجت بعض التقارير الإعلامية تقترح أن مشكلة بالهيكل الخارجي للمكوك هو الذي تسبب بالحادثة، وهو ما نفته ناسا في تحقيقاتها الداخلية..

ولكن لاحقا تم تشكيل لجنة تحقيق رئاسية، أي بأوامر مباشرة من ريغان، تسمى "لجنة روجرز" (نسبة لإسم رئيسها ويليام بي روجرز، إلى جوار آخرين منهم نيل أرمسترونغ)، تهدف لمعرفة سبب الحادث والمسئول عنه..

وربما من سوء حظ ناسا أن ضمن أعضاء اللجنة كان واحدا من أعظم العقول في تاريخ الفيزياء، وهو ريتشارد فاينمان، والذي كان حينذاك مصابا بمرحلة متقدمة من السرطان، مما جعله مترددا في قبول الوظيفة، ولكن بالنهاية قبلها وبدأ في إجراء فحوصاته الخاصة.. 

في جلسات الإستماع المذاعة على التلفاز اقترح فاينمان أن المشكلة الرئيسية تكمن في حلقات دائرية مخصصة توصل بين جزئين ميكانيكيين، وتكون مصنوعة من مادة مرنة تضمن غلقا محكما.. أشار فاينمان إلى أن تلك الحلقات تفقد مرونتها حين تتعرض إلى درجات برودة قوية، وهو ما أدى إلى تفكك جسم المكوك وحدوث الكارثة.. وهو ما حاول مندوب ناسا نفيه، لكن فاينمان بادره قائلا أنه جرب الأمر بنفسه، بشكل بسيط يشبه تجارب معامل المدرسة، حيث وضع الحلقة في كوب ماء بارد، مما أثبت وجهة نظره..

وانتهت المعركة باعتراف ناسا بمسئوليتها عن الخطأ، وأن السبب في الحادث هو تحديدا تلك الحلقات..

وربما هذا تحديدا ما يميز المنهج العلمي: الإعتراف بالقصور الإنساني، وأنه لا شيء يعلو على التجربة.. حيث لا قيمة لأي قداسة أو انفعالات عاطفية أو دعاوى أخلاقية أو تنظير فلسفي أو ثرثرة منطقية، فكل ذلك يسقط فورا أمام تجربة بسيطة مشهودة.. 

فقط أتصور لو أن مكان ناسا هنا جهة دينية أو أيديولوجية ما، فهل كانوا سيعترفون بالخطأ؟ أم سيسهل عليهم المراوغة والترقيع اللغوي أو المنطقي بهدف تبرئة النفس؟

- لم نخطئ، حيث أن الحلقات التي استخدمناها في المكوك تختلف عن تلك التي بين أيدينا الآن..


- لم نخطئ ، حيث أن هذا الإتهام هو بمثابة مؤامرة شيوعية بهدف تقويض دعائم أمريكا العظيمة..

- لم نخطئ، حيث أن اتهام ناسا بالخطأ سيفقد الشعب الثقة في حكومته، مما سيترتب عليه نتائج سياسية واجتماعية خطيرة (في الحقيقة تلك الحجة تم استخدامها فعلا، حيث مورست ضغوط على فاينمان لتعديل تقريره)..
إلخ..


 من العبارات التي دونها فاينمان حينها، وتصلح لأن تكون قانونا لكل من يتحرى الحقيقة والدقة والموضوعية، هي قوله: "من أجل تكنولوجيا ناجحة، يجب تقديم الواقع على العلاقات العامة، حيث أن الطبيعة لا يمكن خداعها"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق