السبت، 1 يونيو 2019

الله والمقامر


 
 الزمان: يوم القيامة..
المكان: قاعة مكتبية أنيقة مكيفة..
الحدث: الله يحاسب البشر..
بلحيته البيضاء الكثة ووجهه الجاد الذي يشبه المرحوم كارل ماركس.. جالس على مكتب خشبي، عليه هاتف وكمبيوتر عتيق الطراز، وملفات مكدسة بالأوراق، وأمامه ورقة يكتب بها ملاحظاته..
يتناول أحد الملفات أمامه، ويرفع سماعة الهاتف مناديا : جبريل، أدخل لي فلان الفلاني..
يدخل رجل متوسط القامة، مبتسما بافتعال وتوتر ، يسير حتى يقف أمام المكتب منتظرا أن يتكلم الله..

الله، يفتح الملف ويقلب أوراقه مكشر الوجه.. يتمتم: اسمك فلان الفلاني.. أنت رجل أعمال، نشاط الأساسي هو المضاربة بالبورصة.. مكتوب إنك ذكي وناجح.. تهتم بمصالحتك قبل كل شيء..

الرجل: نعم يا رب..

الله: لكن الحق الحق أقول أن سجل أعمالك تقليدي وممل جدا، لا شيء مثير فيه.. ولدت وتزوجت وأنجبت ومت في حادث سيارة.. لا أرى خيرا أو شرا.. ولكن كل هذا لا يهمني.. يهمني فقط أن تكون مؤمنا بوجودي..

الرجل، محتفظا بنفس الإبتسامة : نعم يا رب..

الله: على أساس أنني الله، أعظم كائن في الوجود.. وكل شيء إلى جواري يبدو صغيرا وتافها جدا.. أنت متفهم لذلك طبعا..

الرجل: أكيد يا رب..

الله: مكتوب هنا إنك كنت مؤمنا بوجودي.. أوك، هذا يكفيني، مصيرك الجنة.. الباب أمامك على اليمين.. هيا اذهب.. 

الرجل: أشكرك يا رب!

يتجه الرجل إلى الباب المشار إليه، بينما يستمر الله يقلب في الأوراق مقطبا وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة.. وقبل أن يمد الرجل يده إلى مقبض الباب، يناديه الله: يا فلان! تعالى هنا..

يعود الرجل ببطء وتوجس: هل هناك مشكلة يا رب؟

يتنهد رب السماوات ويخلع عويناته ويضعها على المكتب، ويزيح الملف جانبا، ويرفع بصره إلى فلان: أنت لم تكن مؤمنا بي حقا، أليس كذلك؟

فلان: ماذا تعني يا رب؟

تناول الله ورقة من الملف وقرأ منها : مكتوب هنا إنك لم تقرأ كتابا دينيا أو فلسفيا أو علميا في حياتك، وإنك كنت مهتما فقط بمصالحك وحياتك الشخصية، وحين سمعت عني قررت أن تؤمن بي، ليس بسبب الأدلة والبراهين، وإنما بسبب... (هنا ضيق عينيه وقرأ بصعوبة)... رهان با.. باس.. كال.. رهان باسكال..

فلان: لا أعرف عما تتكلم يا رب!

الله: ولا أنا يا ابني، ولكن مجمل ما فهمته أنك كنت تؤمن بي على سبيل الإحتياط.. كنت تقول : سأؤمن بوجود الله وفقط، فلو كان موجودا بالفعل سأربح الجنة، وأما لو لم يكن موجودا فلن أخسر شيئا.. وكنت تهنئ نفسك: يالي من ذكي، حاسب حساب كل الإحتمالات!

فلان: .. نعم يا رب، أعترف أنني كنت أقول هذا.. بصراحة قضية وجودك معقدة وصعبة، ولم أجد ما أكسبه بالإلحاد، فقررت أن أؤمن بك، فالإيمان سهل كما تعلم..
الله، يفكر: لا أدري.. هذا يبدو لي استهانة بمقام الألوهية.. 

اسمع، أنا أرسل معجزات وأكتب كتب مسجوعة، وأضع الأدلة على وجودي في كهوف العرب وفي ثمار البطيخ ، ثم اختفي في السماء، وبالتالي أتوقع اهتماما من البشر.. أتوقع منهم أن يبحثوا ويجتهدوا، أن يتساءلوا ويحتاروا، وبالتالي أتوقع منهم أن يؤمنوا بي ببعض المنطق والعقل... ببعض الحرارة بحق الجحيم!

جاءت العبارة الأخيرة زاعقة، ومعها انفتح الباب الآخر- على الشمال- وهبت منه موجة رياح حارة لفحت وجه فلان، ولمح من وراء الباب امرأة معلقة من شعرها يتم شيها مثل الكباب، فارتعد خوفا وهتف: أنت قلت أن ما يهم هو الإيمان وفقط، وأنا كنت مؤمنا بك!

أغلق الباب فجأة كما فتح فجأة، واستمر الله يغمغم شاردا وكأنما يتحدث إلى نفسه: بعد أن خلقت الكون كله لأحصل على بعض الإهتمام.. بعد لعبة الغميضة الكونية التي صممتها بشكل يجعل جون كريمر، جيغسو نفسه، يشعر بالحسد.. بعد كل هذا المجهود يؤمنوا بي على سبيل الحظ والإحتياط! مستغلين ثغرة قانونية في تشريعي.. لا أذكر أنني شعرت بمثل هذه الإهانة منذ ادعى محمد أنني زوّجته بزينب!

فلان، مستعيدا هدوءه ومهارته التفاوضية: هذه وجهة نظرك يا رب، ولكن المهم أنني آمنت بك، لم ألحد ولم أكفر ولم أشرك.. سمه إيمان احتياطي أو قمار، هذه مشكلتك، المهم أنني التزمت بالعقد وما طلبته.. (ثم مكملا بثقة أكبر) والآن افتح باب الجنة إذا تفضلت، لأن وقتي ثمين جدا..

بعد ثواني من الصمت بدت على الله مظاهر الإعتراف بالهزيمة وتمتم : أنت محق، طالما آمنت فمكانك الجنة، ولا يمكنني الرجوع عن وعدي.. تفضل..

بعد أن اختفى فلان وراء باب اليمين، وما أدراك ما باب اليمين.. مد الله يده متناولا سماعة الهاتف، وقال من بين أضراسه: جبريل، أين المرحوم باسكال؟ 

تقول في الجنة منذ قرون؟ طيب اذهب واحضره لي، وهات معك بعض الزبانية، فلدي كلمتان له..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق