الاثنين، 1 أبريل 2019

الصحوة الإسلامية



سأتحدث عن البلد الذي أعيش فيه وأعرفه أكثر، فالكل يعلم أنه بالستينات من القرن العشرين لم يكن الحجاب (غطاء الرأس) يكاد يوجد بالشارع، ناهيك عن النقاب، وكذلك الحال مع اللحى والجلابيب، وكانت الملابس والسلوكيات أكثر تحررا، والفكر أكثر علمانية، كما كانت الطقوس والشعائر عموما تمارس بشكل هادئ وشخصي لطيف، ولم يكن الدين متدخلا بقوة في الحياة العامة، وربما لم يكن أحد يسمع عن الجهاد والخلافة، أو عن الإعجاز العلمي والطب النبوي وفتاوى رضاع الكبير ونمص الحاجبين..إلخ..

ثم انطلقت الصحوة الإسلامية غير المباركة في بلادنا منذ سبعينات القرن، وإن كان لها جذور أقدم.. 

ففي القرن التاسع عشر تراجع نفوذ العثمانيين ووقعت المنطقة تحت الإحتلال الإنجليزي والفرنسي وغيره، وفي تلك الفترة بدأت بعض الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية هنا وهناك، تحاول اللحاق بما كان يحدث في أوروبا، فبدأ إلغاء العبودية والسخرة، ومنحت للمرأة عدة حقوق، وظهرت البرلمانات والنظم القضائية والقانونية، ناهيك عن بعض التطورات المادية في البناء ووسائل المواصلات والجيوش والمصانع..

 ولما قسمت الدول وسقطت الخلافة نشأت (بفارق أربع سنوات) جماعة الإخوان المسلمين، أم الإسلام السياسي العالمي، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية تم إنشاء دولة يهودية في القلب العربي، ثم قامت الإنقلابات العسكرية العربية مسقطة عددا من الملكيات، وبدأت دعوات القومية والإشتراكية والناصرية والبعثية، والتي نجحت في تحقيق استقلال بلادها ولكن سرعان ما تلقت ضربة مدمرة معنويا فيما يسمى نكسة سبعة وستين، ولاحقا حروب الخليج، مما سيمهد السبيل للبحث عن بديل أيديولوجي آخر..


بتلك الأثناء كانت الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والسوفيتي قد تصاعدت، وتزامن ذلك مع صعود المد الديني حتى بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى دعم الغرب للتيارات الدينية داخل المجتمعات الإسلامية، منذ الخمسينات من القرن العشرين، بهدف استراتيجي هو خلق حزام ديني يوقف المد الشيوعي الروسي، وهو ما وصل إلى ذروته في الجهاد الأفغاني المدعوم أمريكيا وعربيا، والذي لعله كان المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفيتية حيث تفككت بعد ذلك..


فإن كان التيار الإسلامي تلقى دعما محدودا- لأسباب سياسية- من الإنجليز ثم الأمريكيين، إلا أن دفقة الحياة الكبرى له جاءت مع اكتشاف البترول في دولة الوهابية، فبدأ نشر هذا المعتقد عبر أنحاء العالم الإسلامي كله، بل وفي الغرب أيضا، وتم إنفاق عليه أضعاف ما أنفق السوفيت على نشر الشيوعية، فبنيت المساجد ومدارس القرآن بأموال البترودولار، وأنشئت هيئات كبرى تنشر الإسلام بصيغته الوهابية المأخوذة عن ابن تيمية وابن حنبل..


وأما الإسلام السياسي فكان أفراده قد تعرضوا لكثير من البطش والتعذيب على أيدي الأنظمة الإشتراكية العربية، مما أفرز فكرا أكثر تطرفا من سابقه المتطرف أصلا،
وظهر الأساس النظري الفكري لتكفير الحاكم بل والشعب بأكمله، وهنا ستولد التيارات الجهادية والإرهابية..


ثم إن كرة الثلج الدينية العالمية التي أسست إسرائيل ونشرت الوهابية ورفعت اليمين الديني بأمريكا، وصلت إلى إيران في الثورة الخمينية، وإلى تركيا في تيارات مرتدة عن علمانية أتاتورك، وحتى في البلاد التي لم تحكمها أنظمة إسلامية، يمكننا بسهولة أن نرى مدى نفوذ المد الإسلامي الوهابي في المظهر والملبس- والأهم- والعقول..

زرع إسرائيل بالمنطقة - الحرب الباردة وصعود المد المسيحي بالغرب، وتأييد الغرب للإسلام السياسي بالشرق - ظهور البترودولار الوهابي - الدكتاتورية العسكرية العربية - فشل المشروع القومي، والنكسة - هذه بنظري من أهم أسباب الصحوة الإسلامية التي نعيشها..
--------------------------------------
وبرأيي فإن أخطر ما أنتجته تلك الصحوة، وأكثره ضررا، هو أمرين مترابطين، أحدهما سياسي والثاني فكري:

أما الضرر السياسي فهو خلق ثنائية صراع بين شرق إسلامي وغرب مسيحي\علماني، فالأدبيات الإسلامية صورت العالم لنا وكأنه ساحة صراع بين هذين العملاقين، والأيام دول بينهما، فإن كنا نعيش اليوم مرحلة هزيمة الإسلام فالواجب أن نتكاتف ونعيد بناء أمتنا الإسلامية حتى تعود لنا الغلبة من جديد، ونعيد أمجادنا الغابرة..


لكن الحقيقة الواقعية أن العالم لا ينقسم إلى إسلام وغرب، وإنما إلى دول، بعضها متقدم وبعضها متخلف، ولو أردنا التعميم وتركنا المكابرة فسنقول أن الحضارة الحديثة هي صنيعة أوروبية أمريكية بالأساس، وهذا حدث ليس بشكل تراكمي طبيعي، وليس عن طريق استلهام حضارة الإسلام كما يروجون لنا، وإنما هو حدث بسبب مجموعة من الطفرات أكثرها يتعلق بنبذ التراث وليس باستلهامه - وبعد ذلك حتى الدول الشرقية التي لحقت ببعض ذلك التقدم - مثل روسيا أو الهند أو اليابان أو الصين- إنما فعلت ذلك عن طريق واحد هو اتباع المنهج العلمي الحداثي الغربي والذي صار عالميا، وهو منهج لا يكاد يدين بالفضل إلى أي تراث شرقي أو غربي إلا شكليا، وإنما الأصح القول أن التمسك بالتراث كان عائقا عن ذلك التقدم، أي أن التقدم حصل برغم التراث وليس بفضله.. 

على الجانب الآخر، فالحقيقة أنه لا يوجد حضارة إسلامية، ولا يوجد أمة إسلامية، وإنما هناك جماعات عربية وكردية وإيرانية وأمازيغية، سنية وشيعية وقبطية ومارونية وبهائية ودرزية..إلخ، وفوق ذلك يوجد دول لكل منها خصائصه التاريخية والسياسية ولا يكاد يجمع بينهم شيء إلا افتعالا وتعسفا..

لولا وهم الصراع الحضاري هذا لكانت الأمور واضحة تماما : بلدي متخلف، والحضارة عند الغرب، فلنستلهم منهم ونحاول الإستقلال بأنفسنا بعيدا عن أي استغلال أو تبعية لأحد، أو حتى لنتفوق عليهم - تلك الرؤية التي كانت واضحة أمام بلاد الشرق غير المسلم، كما كانت واضحة للعديد من مفكرينا الكبار أوائل القرن العشرين، ولكن الصحوة الدينية شوشت تلك الرؤية تماما، واستبدلت بها أسطورة تقول أننا كنا أمة واحدة (غير صحيح) تعيش مجدا عظيما (غير صحيح) وأن الغرب تقدم بفضل علومنا (غير صحيح) وأن سبيل إعادة المجد هو أن نعيد إحياء ديننا..


تلك الأكذوبة الأخيرة هي الأخطر، وتقودنا إلى النتيجة الثانية- الفكرية- للصحوة، وهي نجاح دعاتها في ربط القوة والتقدم بالتدين، بدلا من العلم أو الحرية، فصارت هزيمة النكسة بسبب بعدنا عن الله، كما قال أشهر المشايخ..


وهي حيلة قديمة مارسها كهنة اليهود على الشعب كما نقرأ بالتاناخ، فحين ننتصر فهذا حصل بفضل الله فاشكروه، وحين نهزم فهذا بسبب بعدنا عن الله فتوبوا إليه، وبذلك يربح الكهنة في كل الحالات، مستغلين الظروف للحصول على مزيد من السيطرة على الشعب..


والنتيجة أن الدين يكاد يحل محل كل شيء: فبدلا من الديمقراطية صرنا نحلم بالخلافة، وبدلا من الطب صرنا نلجأ إلى الرقية والحجامة، وبدلا من الإنشغال بالأمور الكبيرة صرنا منشغلين بالملبس والمظهر والذكر والدروشة..إلخ..


والكارثة الكبرى أصابت الثقافة، ففي أجيال سابقة كانت القراءة موزعة ما بين الأدب العالمي والسياسية والفنون والتاريخ، ولكن في مراحل تالية صارت الموضة هي القراءة الدينية، بداية من أحكام الطهارة وصولا إلى علامات الساعة وعذاب القبر.. ولم يعد مستغربا أن تجلس بين رجال كبار يعدون من الطبقة المتعلمة، ويريد أحدهم استعراض ثقافته أمام الآخرين، فلا يكلمك عن أرسطو أو المعري أو فولتير أو كونفوشيوس أو شكسبير أو نيتشة أو فرويد، وإنما يترك القديم والحديث والشرق والغرب ويحصر نفسه فقط بصحراء الجزيرة بالقرن السابع، فيكلمك عن قصة سيدنا القعقاع أو سيدنا حنظلة أو سيدنا عكرمة، مستلهما الحكمة والفضيلة وربما المعرفة من تلك العصابات من قطاع الطرق الذين صاروا أسيادنا في غفلة من الزمن..

ولأن المسألة ليس لها علاقة بالفكر وإنما بالأحرى بعقدة النقص والبحث عن هوية، فقد صارت الموضة أن ديننا فيه كل العلوم والفنون والمعارف بحيث لا نحتاج إلى غيره، وهذا المناخ الجنوني هو الذي سمح بانتشار مهزلة مثل مهزلة تفتيش كلام البدو بحثا عن الإعجاز العلمي، وهو وباء آخر لم يكن لينتشر إن لم يتوفر المناخ القذر المناسب له..

ولهذا تحديدا نجد الإعجاب الجماهيري الحار بالمشايخ الجهلاء وبالحكام الطغاة، فالشعوب متعطشة لشيء واحد هو الكرامة التي تم إهدارها مرارا، فيكفي أن تغذي هذا الشبق إلى الهوية والمجد الزائلين لكي يقبلوك، ولا يهمهم كثيرا إن كنت دجالا أو سفاحا..


هذا الوضع المزري بدأ يجد نقيضه الإيجابي بالسنوات الأخيرة، مما يمنحنا أملا بحدوث بعض التغير، والذي يتمثل بنظري في ثلاثة أمور: أولها فشل النظم والجماعات الإسلامية وكشفها على المستوى السياسي والأخلاقي، وهذا يحدث بالفعل، والثاني هو قيام بعض الحكام والنخب بعدد من الإصلاحات، وهذه ماتزال لا تحدث بالقدر الكافي، وأحيانا تتراجع، وأما الأمر الثالث والأهم فهو التغير الذي يحدث ليس بيد العوام المغيبين ولا بيد النخبة المنافقة للعوام والحكام معا، والمستفيدة من كليهما، وإنما يحدث بيد شباب عادي مستنير، استطاعوا- بفضل الإنترنت- الإطلاع على الثقافات الأخرى، وبدأوا يتبنون أفكارا مغايرة والترويج لها أحيانا، فظهر منهم من يقوم بترجمة المقالات أو تبسيط العلوم وإتاحتها للناس، فيعيدون مفهوم الثقافة العامة إلى الساحة، وربما تكون هذه هي البداية الصحيحة، من العقل..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق