الاثنين، 1 أبريل 2019

الأخلاق نسبية أم مطلقة؟



من يومين حضرت محاضرتين بإحدى الكنائس البروتستانتية، حول "مشاكل العهد القديم" وكان التركيز على الحروب والمجازر البشعة التي وقعت آنذاك، للكباروالأطفال وحتى الحيوانات، وكانت أبرز نقاط "رد الشبهة" أن تلك الحروب يمكن تبريرها أخلاقيا لأنها كانت وليدة ظروف معينة..


وأكثر من مرة أقرأ منشورات، بعضها كتبه لادينيين، يدافعون عن بعض سلوكيات نبي الإسلام، قائلين مثلا بأنه لا يمكن لومه لأنه تزوج طفلة، حيث أنها كانت عادة الناس في ذلك الزمان..

إذن خلاصة الفكرة -التي تتكرر في دفاعات المؤمنين عن تجاوزات أخلاقية في نصوصهم المقدسة - خلاصة الفكرة أن الأخلاق متغيرة، وأنه لا يصح إسقاط قيم عصرنا الحاضر على ظروف الماضي..
فهل هذا طرح منطقي؟


هل الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ ثابتة أم متغيرة حسب الزمان والظروف؟ وهل يصح أن نأخذ معايير أخلاقية لزمن ما، ونطبقها على زمن آخر؟
سنناقش تلك الأسئلة في بضعة نقاط:
-------------------------


1- المشكلة مع مفهوم الأخلاق المطلقة..

يرى البعض أن الأخلاق ثابتة لا تتغير، على سبيل المثال فالقتل هو أمر خاطئ مهما كانت الظروف..

المشكلة في ذلك التصور أن هناك حالات معينة تجعل ما اعتبرناه غير أخلاقي يتحول إلى فعل مقبول.. مثلا:
- في حالة أن صادفت لصا حاول الهجوم الإعتداء على منزلي، وكنت مضطرا للدفاع عن نفسي وعن أسرتي، فقمت بقتل المعتدي..

- بشكل جماعي، دخلت البلد في حرب (عادلة)، فلابد أن تتضمن قتلا للاعداء..

- هناك مجرم قتل عددا من الناس، فحكمنا عليه بالإعدام - القتل - من باب القصاص..

- في معضلة القطار الشهيرة، حيث يضطر الإنسان إلى قتل شخص واحد، لينقذ عددا من الناس..

لو سألت أكثر الناس "هل أنت ضد القتل؟" فسيجيبون بنعم، ولكن على الأقل فإن بعض الناس سيؤيد القتل في بعض تلك المواقف المذكورة.. أي أن الحكم العام قد تغير مع تغير الظرف ووجود بعض الأحداث الطارئة..
وأكثرنا يمكنه التفكير في ظروف يصبح فيها الكذب مفيدا أو مقبولا: مثل جندي وقع في أسر الأعداء ويطالبوه بكشف أسرار بلده، فهل هنا لا يحق له الكذب لخداعهم؟


لدينا عامل آخر هو تغير الزمن وتبدل العادات والتقاليد: فمثلا زواج أبناء العمومة يتم تصنيفه كعلاقات محارم في بعض الثقافات، أي أنه أمر خاطئ ومنفر، ولكن في ثقافات أخرى تكون تلك الممارسة مقبولة ومعتادة..
من هنا يمكن القول أن مفهوم الأخلاق الواحدة المطلقة الثابتة في كل زمان ومكان، هو مفهوم تعترضه الكثير من الصعوبات..
-------------------------

2- المشكلة مع مفهوم الأخلاق النسبية..

على الجانب الآخر، يؤكد البعض على الجانب المتغير للأخلاق، ويرى أن لكل زمان معاييره الخاصة..

المشكلة في ذلك التصور أنه يصادم لكل ما نشعر به بأعماقنا : فهل يعقل أن تجريم القتل والسرقة والإغتصاب والتخريب، والكذب والخيانة هو مجرد عادة اجتماعية لا أساس لها، وقد تنقلب رأسا على عقب، فتغدو تلك الجرائم والشرور أمورا مقبولة أو إيجابية؟
وهل يمكن - تحت أي ظرف - أن يكون اختطاف طفلة وتعذيبها وقتلها - هو فعل لا غبار عليه أخلاقيا؟


المشكلة الأخرى أن ذلك الفكر يخلق منحدرا زلقا يحول الأخلاق إلى مجرد حالة مزاجية هوائية مائعة، لا تستند إلى أي أساس موضوعي..
فإذا سلمنا - مثلا- بعدم مؤاخذة محمد على زواجه بطفلة، بحجة أن تلك كانت أخلاق عصره، فسيكون علينا تعميم الحكم وعدم مؤاخذته في القتل والغزوات وقطع الطريق وسلب القوافل وسبي النساء وضرب الزوجات، فهذه أيضا كانت من عادات بيئته..
بل طالما اعترفنا أن الأخلاق نسبية متغيرة، فلماذا نفترض أن هناك أخلاق شاملة للعصر كله؟ بل الواجب أن نقيم كل حدث بأخلاق بيئته، فأخلاق العرب تختلف عن أخلاق الفرس والرومان..إلخ، وبالتالي - لو أردنا الدقة - فلنقيم محمد طبقا للمعايير الأخلاقية السائدة في قريش، أو يثرب..


وهنا لا مانع من الخطوة الأخيرة: وهي لماذا نقيم الشخص بأخلاق جماعة معينة؟ الأدق أن نقيم كل إنسان طبقا لمعاييره الخاصة، وبالتالي حين يقوم سفاح بارتكاب جرائم قتل، فإن القتل هنا مقبول، لأنه لا يتناقض مع المعايير الأخلاقة التي وضعها ذلك السفاح لنفسه - وتلك هي النسبية الحقيقية، والنتيجة هي زوال أي مفهوم للأخلاق، حيث يتحول إلى حالة مزاجية شخصية لكل فرد..
-------------------------

3- الدين يتبنى الأخلاق المطلقة، فلا يصح له أن يتحجج بالنسبية..

لو رجعنا إلى الحجة الدفاعية الدينية، بشأن اختلاف الظرف، فسنجد أن الأديان تشنق نفسها حين تلجأ إلى النسبية الأخلاقية.. ذلك أن الأديان تقوم على المرجعية الثابتة، وهي الله، حتى أن البعض يستدل على وجود الإله بما يسمى "الدليل الأخلاقي" والذي يقول أن بداخل كل إنسان معايير أخلاقية ثابتة، وبالتالي فلابد أن لها مصدرا واحدا، وهو - بنظرهم - الله.. ثم إن الأديان تقوم على أن ذلك الإله يمثل "الخير المطلق"، كما أن للأديان أحكام تستمر عبر القرون، يعتبرها أهلها خيرا، وبناءا عليه فلابد أن يكون للخير معنى ثابت، وإلا سقطت جميع الحجج الأخلاقية للأديان..


أما حين يلجأ الدين للتحجج بتغير الظروف وأن لكل زمان صوابه وخطأه المختلفين، فهنا الدين يناقض نفسه ويضرب أسسه في مقتل..
-------------------------

4- أما بعد، فما هي الأخلاق؟

ترى لماذا نعتبر أن العدل والحق والرحمة والصدق والأمانة والكرم والوفاء والشجاعة والسلام والتعاون أمور جيدة، بينما نعتبر القتل والسرقة والتخريب والظلم والقسوة والكذب والأنانية والنذالة والخسة والخيانة والجبن والعنف أمور سيئة؟

يتوهم البعض أن الأخلاق هي قواعد روحانية نزلت من السماء، ولكن الحق أن الأخلاق هي قواعد بيولوجية تطورية بشرية صرفة، خرجت من باطن الأرض، كما أنها وضعية، أي أننا اخترعناها بأنفسنا لندير حياتنا بشكل يرضينا..

بنظرة شاملة يمكن القول أن ما نسميه "أخلاق جيدة" هي الأفكار والسلوكيات التي تفيد المجتمع، وتساهم في سعادته وبقاءه.. وأما ما نسميه "أخلاق سيئة" فهي الأفكار والسلوكيات التي تضر المجتمع، وتساهم في تعاسته واندثاره..

ما ينفعني ويسعدني أسميه "مصلحتي"، وما ينفعك ويسعدك نسميه "مصلحتك".. ولكن لأننا نعيش بمجتمع واحد، فيحدث أن مصالحنا تتعارض، وهنا لدينا حل من اثنين: إما الصراع حتى يخضع أحدنا الثاني بالقوة، وهو أسلوب قد ينجح مرة بشكل جزئي، ولكن على المدى الطويل يؤدي إلى الفوضى وبالتالي خسارة الجميع، وربما يمنح الفرصة لطرف ثالث أن يخضعنا نحن الإثنين.. وبالتالي لجأنا إلى الحل الآخر وهو المساومة بين مصلحتي ومصلحتك، وذلك بالوصول إلى حل وسط يرضي الأطراف: ذلك ما نسميه "العدل"..

الأخلاق هي مصلحة الجماعة ككل، ولهذا هي تستلزم وضع قواعد نظام داخلي، يضمن تعايش الأطراف المختلفة بشكل منسق يرضي أكبر عدد من الناس..

لهذا نقول أن القتل والسرقة والتخريب أمور خاطئة، ليس لأنها عديمة النفع، إذ أنها قد تنفع مرتكبها كما تضر غيره، ولكن نعتبرها كذلك لأنها سلوكيات لو سادت في مجتمع لجعلته مجتمعا مفككا فوضويا متناحرا، ليس لديه فرص قوية للبقاء والإزدهار..


فكما أن الأنانية والقسوة والطمع ضرورية للبقاء، فكذلك الرحمة والتعاون والإيثار ضرورية للبقاء.. فكلاهما له سبب دارويني وجيه، وكلاهما نجده في الطبيعة بوفرة: نجد ما نسميه "خير" كما نجد ما نسميه "شر"..
-------------------------

5- وهل هي متغيرة أم ثابتة؟

هذا المفهوم يعني أن الأخلاق ثابتة في أهدافها، فهي قواعد سلوكية تهدف للبقاء والإزدهار والسعادة.. إلا أنها متغيرة في تفاصيلها : لأن ما يساعدنا على البقاء اليوم، قد لا يساعدنا غدا لو تغيرت الظروف..


ولنأخذ مثلا: الحروب في الماضي كانت أكثر ضرورية وأكثر نفعا، حيث لا قانون دولي ولا حدود مرسومة بين الممالك، ولم يكن هناك وسائل كثيرة للإنتاج والإثراء، إلا بالإستيلاء على ثروات الآخرين، كما كانت الحروب تحقق مصالح خاصة للملوك والفرسان المقاتلين.. ولكن في الأزمنة المتقدمة اختلف الحال، حيث صارت هناك وسائل أكثر للربح دون قتال، عن طريق التجارة مثلا، كما ظهرت وسائل مختلفة لحل الخلافات والمنازعات بين الدول، كما أن ظهور الديمقراطية جعل صاحب القرار (الشعب) هو نفسه المتضرر الأكبر من الحرب، مما يدفعه للتفكير ألف مرة قبل ذلك القرار، وهو ما لم يكن الحال في الماضي.. ونتيجة ذلك أن الحروب تراجعت كثيرا عما كان الحال قبل ذلك، كما لم تعد الأخلاقيات السائدة هي التفاخر بالنصر وذبح الأعداء كما كان الوضع..

 باختصار صرنا أكثر حبا للسلام وحرصا عليه من أجدادنا، كما صرنا نحقق مصالحنا بطرق أخرى أكثر ذكاءا وتعقيدا وأقل عنفا..

ذلك مع التأكيد على أن التغير محدود، فالقيم الأخلاقية لا تنقلب مائة وثمانون درجة، ولا يتوقع منها كذلك، لأنه ببساطة الظروف والمجتمعات لا تنقلب مائة وثمانون درجة..

 فسيظل دائما الحب والرحمة واللطف والنظام والتعاون والحرية والعدل أفضل من الكراهية والقسوة والغلظة والفوضى والأنانية والقمع والظلم.. وأما ما سيتغير هو الظروف التي تستلزم تغيير التركيبة السلوكية الملائمة للتعامل مع المحيط..


فيمكن القول أن الأخلاق متغيرة بقدر تغير المجتمعات الإنسانية، ثابتة بقدر ثبات طبيعة الإنسان..

هناك تعليق واحد: