الاثنين، 1 أبريل 2019

النظام من رحم الفوضى



بين التصميم والصدفة : البديل الثالث..

من أدلة وجود الإله - بنظر المؤمن- أن الكون الذي نعيش فيه يحتوي أشكالا من النظام، مما يستدعي وجود مهندس يخطط ويصمم ويدير كل شيء..

وأما من لا يؤمن بهذا الإله، فيتم وصفه بأنه "يؤمن بالصدفة"، فطالما لا يوجد إله فلابد أن كل شيء بنظره يسير بعشوائية وفوضى..


المغالطة الرئيسية هنا هي "الثنائية الزائفة"، أو "المأزق المفتعل" (إن لم يكن "أ" إذن فهو بالضرورة "ب".. مثلا: إن لم تكن مع الحجاب فأنت مع التعري)، وتكمن المغالطة في أنه غالبا يكون هناك احتمال ثالث لا يجب تجاهله؛ في تلك الحالة قوانين الطبيعة، والتي تنتج نظاما غير شخصي..

الملحد لا يؤمن أن كل شيء نتاج الصدفة، وإنما هو يستند إلى العلم، والعلم يقوم بالأساس على أن كوننا له قوانين محددة يمكن فهمها، تلك القوانين لا تحتاج إلى خالق ليقررها لأنها ليست بمثابة "مراسيم صادرة" عن جهة ما عاقلة، وإنما تلك القوانين هي بالأحرى وصفنا نحن لخصائص الطبيعة..

كمثال لو أخذنا قطعة صخر، فسنجد أن لها وزن محدد، ولكن هذا لا يعني أن هناك جهة ما قررت ذلك الوزن (فقالت: ليكن وزنك كذا غرام)، وإنما الوزن هنا هو تعبير بشري رقمي عن خاصية طبيعية من خصائص تلك الصخرة، لا يمكن القول أنه من صنع جهة ما، كما لا يصح القول بأنه من صنع الصدفة أيضا..

والملاحظ أن قوانين الطبيعة هذه يمكن أن تنتج أشكالا من النظام الداخلي، دون حاجة إلى تدبير خارجي من كائن واعي..
--------------------------------------------

لنبدأ ببعض الأمثلة البسيطة، ثم ننتقل إلى الأعقد :
- لو أحضرنا إناءا ممتلئا بالماء، فيه ثقب صغير بأسفله، فسنجد أنه يسرب قطرات من الماء، بمعدل ثابت، مع وقت محدد بين كل قطرة وأخرى..

هذا النظام الزمني، الشبيه بالساعة، لم يستهدفه مصمم، وإنما هو نتيجة طبيعية لخصائص الماء مع عمل الجاذبية..

- لو نظرنا إلى فقاعة صابون عادية، من التي يلعب بها الأطفال، فسنجد أن لها شكلا كرويا دقيقا بشكل مبهر حقا، فهل تلك الفقاعة صنعها مهندس بارع، أم أنها شكل عشوائي صادف تلك الدقة الكروية؟

لا هذه ولا تلك، وإنما ما حصل أن ضغط الهواء داخل الصابون بطبيعته يميل إلى التساوي في جميع الإتجاهات، مما ينتج شكلا كرويا بديعا..

- بل تصور السيناريو التالي: لو أنك قمت بتمزيق مئات القطع من الورق بأحكام عشوائية مختلفة، ثم وضعتهم داخل غرفة، وبعد بضعة دقائق دخلت الغرفة فوجدت أن الورق جميعه متكتل في ركن واحد من الغرفة، والأركان الأخرى فارغة، ليس هذا فقط وإنما وجدت الأوراق مرتب حسب الحجم، فالأوراق الصغيرة كامنة في أقصى الركن، تليها الأوراق الأكبر فأكبر.. الآن: هل هذا يعني أن هناك شخص واعي دخل فقام بتجميع تلك الوريقات بهذا الشكل؟

ليس بالضرورة، وإنما قد تكون هناك نافذة مفتوحة بأحد الأركان، دخلت الرياح منها فدفعت جميع الأوراق إلى الركن المقابل للنافذة، ثم إن الوريقات الصغيرة طارت أولا، تليها الأكبر فالأكبر؛ أي أن وضع الغرفة ومكان النافذة وقوة الرياح كلها قوة طبيعية تضافرت لتصنع شكلا من أشكال النظام..

- تخيل أن لدينا مجموعة من الفراشات الصغيرة المتماثلة فيما عدا ألوانها، المتدرجة بالرمادي، داكن وفاتح، ثم هب أنك تركت تلك الفراشات لأشهر من الزمن، ثم عدت فوجدت أن الفراشات الداكنة فقط هي الحية، بينما الفراشات الفاتحة جميعها قد ماتت.. ما تفسير ذلك؟ هل هي الصدفة، أم هناك كائن واعي جاء قاصدا ليفرز الفراشات؟
لا هذه ولا تلك، علما بأن هذا المثال ليس من الخيال وإنما هو حدث فعلا بانجلترا القرن 19 وصار من الأمثلة الكلاسيكية لنظرية التطور : ما حدث هو أن دخان المصانع في المنطقة تسبب في تحويل جذوع الأشجار إلى اللون الداكن، وكانت تلك الفراشات تقف على الجذوع، فحين جاءت الطيور المفترسة كانت تلمح فقط الفراشات الفاتحة ظاهرة على الجذع الداكن، بينما الفراشات الداكنة كانت أقل ظهورا فنجحت في التخفي ومن ثم البقاء، وهكذا مع الوقت جاء النسل العام داكنا..

--------------------------------------------
التنظيم الذاتي العفوي
..
Self-organization
Spontaneous order

هو مصطلح واسع يستخدم في العلوم الطبيعية والإجتماعية، ويقصد به العملية التي تشمل نشوء نظام من خلال تفاعل داخلي بين أجزاء غير منتظمة، وتتسم تلك العملية بأنها عفوية لا تحتاج إلى تحكم من عامل خارجي، وتحدث نتيجة تفاعلات عشوائية داخلية تعززها ردود أفعال إيجابية تساعد على التوجه لشكل من أشكال النظام اللامركزي - وتحدث تلك الظاهرة في عدة مجالات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية وتقنية واجتماعية واقتصادية..

فكرة أن الآليات الداخلية لحيز ما قد تؤدي إلى زيادة في تنظيمه، هي فكرة قديمة وجدت عند الفلاسفة الذريين اليونانيين مثل ديمقريطس ولوكريتس، الذين كانا مقتنعين أن وجود ذكاء مصمم هو أمر غير ضروري لخلق النظام في الطبيعة، وقالا بأنه مع وجود مكان وزمان كافيين، فإن النظام قد ينشأ بمفرده.. ولاحقا تحدث بعض الفلاسفة عن إمكانية التنظيم الذاتي نظريا، مثل ديكارت وكانط..

وفي القرن 19 تم اكتشاف القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي ينص على أن الإنتروبي (الفوضى) في زيادة مستمرة، أي أن التنظيم العام سيقل تدريجيا مع الوقت داخل نظام معزول، مما يعني أنه لكي يحدث تنظيما عفويا في مكان ما، فلابد أن يقابله تراجع في النظام في مكان آخر مرتبط به..


وفي الفيزياء تعمل خصائص التنظيم العفوي في ظواهر كثيرة يصعب حصرها، طبيعية وصناعية، مثل انتقال المادة من حالة إلى أخرى (غاز، سائل، صلب)، والمغنطة، ونمو الكريستالات، وفي الليزر، وخاصية التوصيل الفائق، وفي تشكل ندف الجليد، وغيرها..
 ومن أمثلة التنظيم الذاتي العفوي ما يسمى التجميع الذاتي
Self-assembly 
وهو مصطلح فيزيائي وكيميائي، يصف كيفية قيام جزيئات موجودة باتخاذ شكلا منظما أو نمطيا، بشكل عفوي نتيجة للتفلاعات الداخلية بين مكوناتها والتي تحركها خصائصها الطبيعية، بلا توجيه خارجي..

وفي الكيمياء نجد أن التجميع الذاتي له عشرات الأمثلة والتطبيقات، منها تشكل الكريستالات، أو تصنيع أنسجة النانو، ففي الحالتين لا يتم وضع جزيء إلى جوار الآخر، وإنما يتم الإعتماد على خاصية التنظيم الذاتي للجزيئات..

بل إن خاصية التجميع الذاتي للجزيئات، والمؤكدة بالدراسات والتجارب المعملية، تقدم لنا التفسير الأقوى لنشأة الحياة على الأرض..

كما يلعب التجميع الذاتي دورا حيويا في وظائف الخلايا، منها مثلا ظهوره في عمليات تشكل الجزيئات الدهنية (الليبيدات) التي تكون غشاء الخلية..

|وحتى على مستوى علم الإجتماع، فإن خصائص التنظيم العفوي تساعد الباحثين على دراسة ظواهر اجتماعية عديدة مثل سلوك القطيع والكتلة الحرجة والتفكير الجماعي..


وللتنظيم العفوي أهميته القصوى في فهم آليات الإقتصاد وكيفية عمل الأسواق، حيث ينشأ نظام اقتصادي كامل من خلال تفاعلات لأفراد لم يقرر أحد منهم شكل ذلك النظام، فلا هو نظام عشوائي ولا من وضع مخطط أعلى..

وتعد نظرية التطور- خاصة آلية "الإنتخاب الطبيعي"، أحد أهم تطبيقات التنظيم العفوي في الطبيعة، كما ذكرنا في مثال الفراشات.. حيث أن سعي كل كائن للبقاء يؤدي إلى نظام عام لتغير شكل النوع، كما يؤدي إلى أشكال من التوازن البيئي والعلاقات المنظمة بين الأنواع وبعضها..
--------------------------------------------
- لعبة الحياة (كونواي)
Conway's Game of Life

هي لعبة محاكاة حاسوبية للخلايا، ابتكرها الرياضي البريطاني جون كونواي في 1970، والملاحظ أنها لا تحتاج إلى أي لاعبين، وإنما هي تقوم على التطور التلقائي ابتداءا من الظروف الأولية..


العالم باللعبة عبارة عن مصفوفة ثنائية الأبعاد مكونة من مربعات صغيرة لامتناهية، لكل مربع حالتين فقط: حي أو ميت.. كما أن كل مربع يتفاعل مع المربعات الثمانية المحيطة به، بناءا على أربع قواعد محددة:
أي خلية حية لها أقل من جارين، تموت (وكأنما بسبب الوحدة)..
أي خلية حية لها جارين أو ثلاثة تستمر بالحياة إلى الجيل التالي..
أي خلية حية لها أكثر من ثلاثة جيران تموت (وكأنما بسبب الإكتظاظ)..
أي خلية ميتة يحيط بها ثلاثة جيران تصبح حية (وكأنما هي عملية ولادة)..
وتبدأ اللعبة بالوضع الأولي، وينشأ الجيل الأول عن طريق تطبيق القواعد المذكورة بشكل منفصل على كل خلية، فيموت البعض ويحيا البعض، فكل جيل هو نتاج الجيل السابق..

وترينا اللعبة كيف يمكن إنتاج عددا لا نهائيا من الأشكال المذهلة، والمنظمة، من بدايات بسيطة للغاية
ويمكنك تجربتها بنفسك هنا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق