الأربعاء، 21 مايو 2014

الأخلاق بين الدين و الإلحاد (2)


الجزء الثاني

حسنٌ، ولكن ماذا عن الأخلاق من وجهة نظرٍ لادينية؟ هل هي أفضل حالاً؟

لنبدأ بالنّظر في التّعريف ونسأل:
هل هناك مفهومٌ لادينيٌّ للأخلاق؟

"إنه لمن الخطأ تمامًا الاعتقاد بأنّ الدّين يوفّر الإطار العام الوحيد لأخلاقٍ عالمية." — المفكر وعالم العصبيات الأمريكي سام هاريس

"إن الأخلاق هي مجموعة مفاهيم ومبادئ توجهنا لتحديد ماهية السّلوكيات التّي تفيد أو تضر الكائنات الحيّة" — تعريف للأخلاق من كتاب "الدّليل إلى فهم أسس العقلانية الأخلاقيّة"، ريتشارد بول وليندا الدر

بعيدًا عن تناول الفلاسفة القدامى والمحدثين للأخلاق تحليلاً وتصنيفًا وجدالاً، يمكننا تعريف الأخلاق ببساطة بأنها مراعاة مصالح الجماعة.

و بما أن اللاديني لا يدّعي "الإطلاق" أو "القداسة" أو "الرّوحانية" كالمؤمن، بل ينطلق من الطّبيعيّ والماديّ والحسيّ والملموس والمصلحيّ والنّفعي (كما تسري بها تهمته الشهيرة، وهي تهمة لن ننفيها هنا بل سنؤكدها) فلنبدأ من المادي والنّفعي إذًا:


أ) لاشك أن السّعادة والألم هي أسس المشاعر البشرية، بل والحيوانية، فكل كائنٍ حيٍ يسعى لتحصيل السّعادة وتجنب الألم.

ب) ومن غريزتي السّعادة والألم - عبر التّطور المجتمعي الإنساني - نبع مفهوما المصلحة والضّرر؛ فما يسعدنا كأفراد ويدعم بقاءنا وبقاء نسلنا نطلق عليه "مصلحتنا"، وما يؤلمنا كأفراد ويهدد بقاءنا وبقاء نسلنا نطلق عليه "ضررنا".

ج) ومن مفهومَي المصلحة والضّرر - عبر التّطور الفكري الإنساني - نبعت قيم الخير والشر الأخلاقيّين: ما يحقق مصلحة الآخرين )المجتمع( نطلق عليه "الخير"، وما يضاد مصلحة المجتمع نطلق عليه "الشر".

سعادة وألم -------> نفع وضرر -------> خير وشر

إنها غرائز تبلورت إلى مفاهيم، ومفاهيم تبلورت إلى قيمٍ سلوكية؛ فلا غيبيات ولا روحانيات ولا ميتافيزيقا ولا معانٍ مجردةٍ مطلقةٍ موحىً بها من قوةٍ خارجيةٍ سماوية، وإنما قوانين سلوكيةً تفرضها الطّبيعة ونصقلها نحن بعقولنا لتخدم مصالحنا، فالمرجع الوحيد هو الإنسان : بعقله ومجتمعه.


الأساس البيولوجي (التّطوري) للأخلاق

"إن الأخلاق غريزة القطيع لدى الفرد." — الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

لنتصور معًا أنّ أمامنا ثلاثة مجتمعات/قبائل منفصلة؛ فالقبيلة الأولى هم من أصحاب الأخلاق المثاليّة الشّبيهة بالملائكة دون ذرةٍ مما نطلق عليه شرًا: الكل فيها يمتاز بالمحبة والسّلام والصّدق والكرم والإيثار بحيث يفضّل غيره على نفسه ويضحّي من أجل الآخرين، والقبيلة الثانية – على النّقيض - تحوي بشرًا لاأخلاقيّين أشبهُ بالشياطين المفترسة دون ذرةٍ مما نطلق عليه خيرًا: الكل فيها يمتاز بالكذب والخيانة ويميل إلى العنف ويمارس القتل والسّرقة والاغتصاب دون رادع، ثم أخيرًا لدينا قبيلةٌ ثالثةٌ أفرادها وسطيون- مثلنا- تجتمع فيهم صفات الخير والشر في شكل المزيج المعروف والمألوف لنا.

السّؤال هنا: أيُّ تلك القبائل ستكون أكثر ترشحًا للبقاء والإستمرار بشكلٍ أكثر كفاءةً وفعاليةً دون فناءٍ؟

الجواب على الأرجح هو الثالثة؛ إذ من السّهل تصور كيف سينقرض أفراد القبيلة الأولى حتما حيث سيكونون عُرضةً للإنهيار أمام أقل اعتداءٍ خارجي من مجتمع مٍنافس، فلن يمتلكوا مناعةً ضد الهجوم ولن يكونوا مستعدين للقتال عند اللزوم دفاعًا عن أنفسهم وأرضهم ومواردهم، وبالتّالي فلن يكون لديهم فرصةً للبقاء والعيش.


كذلك، فلن يكون حظُّ القبيلة الثانية أفضل كثيرًا؛ فحتى لو امتاز أفرادها بالعنف والقوة التّي ستمكنهم من حماية أنفسهم أو حتى الاعتداء على الغير، فمن السّهل تصور كيف يمكن للصراعات الأنانية الضّارية فيما بينهم أن تكون كفيلةً بأن تهلكهم جميعًا في حروب ومعارك داخليةً لا تنتهي حتى تفنيهم عن بكرة أبيهم.

وباختصار، فالقبيلة الأولى غالبًا ما ستفشل في العيش، بينما ستفشل الثانية في التّعايش. أما القبيلة الثالثة – الجامعة لقيمٍ مختلطةٍ من "الخير" و"الشر" – فيُتوقع لها أن تكون أقدر على التأقلم مع الظروف المختلفة، و الجمع ما بين الأضداد، وبالتالي ستكون أنجح في بناء حضارةٍ تجمعُ بشكلٍ متوازنٍ ما بين السّلم والعنف، الرّحمة والقسوة، التّعاون والأنانية، وبالتّالي فستكون النتيجةُ مجتمعًا أكثر مرونةً وتماسكًا وأقدر على البقاء من أخويه.


هكذا نرى كيف أن الأخلاق مفيدةٌ كما أن الأنانية مفيدة؛ إذ لا يمكن تصورُ قدرة مجتمعٍ ما على العيش والازدهار دونما حرصٍ من أفراده، ليس على مصالحهم الشخصية فحسب، بل على المصلحة الجماعية للقبيلة/ للشعب/للأمة أيضًا.. من هنا – وحسب آليّة الانتقاء التّطوريّ والقائمة على الغربلة الطّبيعية المستمرة عبر ملايين السّنين- صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السّلوكيات الأنانية (الشريرة) من ناحية، والسّلوكيات الأخلاقيّة الإيثارية (الخيرة) من ناحيةٍ أخرى، مما منحها مرونة في التعامل مع الظروف المتقلبة، ومكنها من التّعاون الدّاخلي وتحسين مجتمعها والحفاظ على بقائها ضد الأعداء في آن، كما كان حال القبيلة الثالثة المعتدلة سعيدة الحظ – بينما لو وُجدت كائناتٌ ملائكيةٌ أو شيطانيةٌ تعيش في جماعاتٍ فالأرجح أنها ستنقرض سريعًا.

وما يؤكد تلك النّظرة للأخلاق (أنها بيولوجية/ تطورية وأنها مفيدةٌ لبقاء النّوع) هو أننا نجد بوضوح مظاهرًا لسلوكيات أخلاقيّة مدهشةً عند الحيوانات وخاصة الثدييات: حيث نرى كثيرًا من الكائنات تملك غريزة التّعاطف مع أفراد جنسها، فنراها تتشارك في الطّعام وتحمي الضّعيف وترعى المريض وتساعد العاجز... إلخ، علما بأن هذه الممارسات "الأخلاقيّة" لا تصبّ بالضّرورة في مصلحة الحيوان الفرد بل قد تتضمن معاناةٍ أو مخاطرةٍ أو تضحية قد تودي به، ولكن الواضح أنّها تصبّ في مصلحة بقاء القطيع أو الجماعة ككل، ولهذه الأخلاقيّات أنواعٌ وأسبابٌ عديدة، كلها تصبّ في باب المصالح المتبادلة والحفاظ على بقاء الجماعة.

كمثال، فهناك ما يسمى "اصطفاء القرابة kin selection "، وهذا ما لاحظه - ربما لأول مرة - تشارلز داروين، وتعريفه أنّه آليّة تطوّرية تنتج سلوكًا تعاطفيًا إيثاريًا من الكائن تجاه أقاربه، حتى ولو كان على حسابه الشخصي؛ إذ يكمن الهدف هنا في الحفاظ على بقاء المجموعة المشتركة من الجينات، وهذه الغريزة قد تتجاوز الأقارب المباشرين لتمتد شاملة الأقارب الأبعد أيضًا، وهم سائر أفراد الجماعة.

وبالإضافة لاستمرار النّسل وتقوية الجماعة، فالسّلوكيات الأخلاقيّة كثيرًا ما تهدف إلى تبادل مصالح شخصية، وهو ما يسمى "الإيثار المتبادل" Reciprocal Altruism ؛ إذ يقوم القرد الأول مثلاً بتفلية ظهر القرد الثاني من القمل، وبعدها سيحدث تبادل للعملية، فالفائدة الواضحة لسلوك "مقايضة المصالح" هذا سينتج غريزةً تطوّريةً تميل إلى التّعاون المتبادل بين الكائنات.

وكما أنني كفرد حين أرتكب الأذى تجاه الغير أتوقع أنه قد يصيبني بعدها أذى مماثلٌ على سبيل الانتقام، فكذلك حين أحسن إلى غيري أتوقع أن الجميل سيتمّ رده إليّ لاحقًا، وهكذا فالاستقامة الأخلاقيّة تجلب المنافع للأفراد والمجتمع، وأحيانًا أكثر من القيم الأنانية والفرديّة واللاأخلاقيّة.

وحتى لو أدّت سلوكيّات الأخلاق والإيثار والتّضحيّة إلى ضرر الفرد بشكلٍ مؤقتٍ أو دائم، فهي ستؤدي إلى مصلحة الجماعة وبقائها، وهنا يأتي دور ما يسمى "الإصطفاء الجماعي " Group Selection ، وتعريفه أنّه انتشار سماتٍ سلوكيةٍ معينةٍ في الجماعة، لأنها تعود بالفائدة على الجماعة ككل، حتى ولو لم تكن مفيدةً بشكلٍ مباشرٍ للأفراد، ولعلّ تلك الآلية الطّبيعية (أي الإصطفاء الجماعي) هي التّفسير البيولوجي لوجود جميع السّمات التّي نطلق عليها أخلاقًا.

هكذا نرى كثيرًا حالاتٍ من تبنّي الكلاب مثلا لحيواناتٍ من فصائل أخرى كالقطط أو السّناجب أو البط، ونجد الذئاب تجلب اللّحم لأفرادٍ من الجماعة لم يكونوا مشاركين في عمليات الصّيد، ونفس الشيء ينطبق أيضًا على الخفافيش مصاصة الدّماء، حيث تتشارك معًا في تقسيم الوجبات فيما بينها، وربما نجد القرود تتصالح معًا بعد حدوث مشاجرة بينهم بشكل يشبه ما يفعله الإنسان تمامًا، وقد نرى أنواعًا من القوارض والدّلافين ترعى الأفراد العجائز والمرضى والمصابين... إلخ، وفوق هذا نرى تجلياتٍ عجيبةً لغريزةٍ كالأمومة؛ فنرى الكثير من إناث الحيوانات تضحي بنفسها من أجل أولادها بطرق مختلفة - وهو مثالٌ ممتازٌ لتوضيح مدى الإرتباط بين الأخلاق والغرائز- فالأمومةُ هي هذه وتلك معًا.

من المؤكد إذن أنه لدى الحيوانات أسسًا غريزيةً لجميع قواعدنا السّلوكية والأخلاقيّة بدايةً من المحبة والعدالة والتّكافل والتراحم واللياقة وحتى مراعاة الخصوصية والحدود وحقوق الملكية بين الأفراد.

بالتّالي من جهة علوم الأحياء، وحسب رؤية التّطور، فالقيم الجماعية المسماة بالأخلاق تبدو مفهومةً ومبررةً تمامًا؛ إذ أنها - تمامًا كقيم الفرديّة - كلها تصبُّ في مصلحة بقاء النّوع وازدهاره، فالمجتمع الذي تتوافر فيه بعضٌ من قيم العدل والصّدق والتّسامح والمحبة والتّعاون الدّاخلي ورعاية الأضعف هو مجتمع أقدر على البقاء والازدهار من المجتمع الذي تقوّضه قيم الظلم والكذب والعصبيات والكراهية والأنانية وتمزّقهُ الفتن والصراعات الدّاخلية،وعليه فالأخلاق جيدةٌ ومطلوبةٌ لأسبابٍ وجيهةٍ جدًا؛ حيثُ أنها تقوّينا وتحمينا وتسعدنا وتحقق مصالحنا المتبادلة وتحافظ على بقاء نوعنا ومجتمعاتنا.

ويجدر ملاحظة أن هذا الحال لا يعني أبدًا أنّ كلّ فعلٍ أخلاقيّ يقوم به الكائن يخفي بالضّرورة وراءه هدفًا مصلحيًا لنفسه أو للجماعة، وإنما الأدقّ القول بأنّ ارتباط المصلحة الجماعية شرطيًا بتوافر السّلوكيات الأخلاقيّة لدى أفراد تلك الجماعة، نجح في أن يزرع بداخل الكائنات غريزةً فطريةً – تشكلت وتبلورت عبر قرونٍ من الانتخاب الطّبيعي والغربلة المستمرة – بحيث صار النّزوع بشكلٍ تلقائيٍّ عفويٍّ نحو شيءٍ من الفهم والشعور والالتّزام الأخلاقيّين، سواء في الحيوان أو الإنسان.

هذا ومن البديهي أنّه وكلما تعقّد مخُّ الكائن وتعقّد تكوين مجتمعه، كلما صار لدينا سلوكياتٌ أخلاقيّةٌ أكثر تطوّرًا وتعقيدًا؛ إذ من الوضح أنّ الأخلاق عند الإنسان أكثر تطوّرًا من أخلاق الحيوانات، وأن أخلاق المجتمعات الإنسانية المتقدمة أكثر تطورًا من أخلاق الإنسان البدائي - ولا نقولُ "أفضل" ولكن نقول أكثر تفصيلاً وتركيبًا وتعقيدًا، وبالتّالي أنسبُ لمجتمعها.

ولمن يسأل بدهشةٍ: كيف يكون للمادة أخلاق؟! نُجيب: منذ اللحظة التي صارت المادة فيها تعي وتعقل وتحتاج وترغب، ككائنٍ حي، صار لزامًا عليها أن تصنع لنفسها قوانينًا سلوكيةً تنظم لها الحفاظ على احتياجاتها ورغباتها تلك على وجهٍ مناسب، وبالتّالي فقد صارت المادةُ بالمقابل مسؤولةً جزئيًا عن المساعدة في الحفاظ على احتياجات ورغبات الكائنات "الماديّة" الأخرى، لأننا كائناتٌ تتألم، وقد صرنا بالتّبعية مسؤولين عن آلام الكائنات الأخرى.

وعليهِ، فأخلاقنا إنما نبعت من وعينا ومن سعادتنا وآلامنا، وليس من وجود "الأرواح" (أيًّا كان معنى تلك الكلمة!) بداخل أجسادنا، فأخلاقنا مثل أجسادنا : نشأت من الأرض، ولم تهبط من السّماء.

الأخلاق كمصلحةٍ للجماعة

إذًا، فالأخلاق لها أصلٌ بيولوجي، وهي ليست أكثر من تسميةٍ نستخدمها نحن لوصف كل ما يحقق مصلحة الجماعة وما يقود إليها: الخير هو "توصيفنا" لكل ما يحقق النّفع للجماعة ويسبب لأفرادها السّعادة، كما أن الشر هو "توصيفنا" لكل ما يسبب الضّرر للجماعة ويسبب لأفرادها الألم.

هذا التّعريف يقبله البشر على اختلافاتهم ضمنيًا وبلا وعيٍ عمليًا حتى ولو لم يتنبهوا لذلك؛ فمن هنا يتفق الجميع أن الإنسان الذي يضحي ببعض مصلحته من أجل مصلحة المجتمع - بشكلٍ يفيد هذا المجتمع ويدعم بقاءه - يسميه المجتمع إنسانًا خيرا ، بينما الإنسان الذي يقدم مصلحته الأنانية على مصلحة المجتمع - بشكلٍ يضرّ بهذا المجتمع ويهدد بقاءه - يسميه المجتمع إنسانًا شرّيرًا، ويصل الأمر في أقصى طرفيه إلى نموذجين متعاكسين تمامًا، هما "الشهيد" و"السّفاح"؛ إذ أن نميل لتمجيد من يضحي بحياته من أجل مصالحنا، وإدانة من يضحي بحياتنا لأجل مصالحه.

وهكذا في الأحوال العاديّة فالمحبة، الصّدق، التّسامح، الألفة، التّعاون، الإيثار، العدل والنّظام... إلخ هي قِيمٌ نعتبرها إيجابيةً أخلاقيًّا، لأنها تحقق مصالح الأغلبية وتساهم في بقاء المجتمع وازدهاره، بينما الكراهية، الكذب، التّعصب، الفرقة، الانقسام، الأنانية، الظلم والفوضى...إلخ هي قيمٌ نعتبرها سلبيةً أخلاقيًّا، لأنها تهدّد مصالح الأغلبية وتساهم في تقويض المجتمع وانهياره، فكلنا نرفض القتل والسّرقة والاعتداء على الممتلكات والفوضى الجنسيّة لأسبابٍ واضحةٍ جدًا، وهي أن تلك الممارسات لها أضرارٌ ماديّةٌ ومعنويةٌ على الأفراد والمجتمعات.


وكما رأينا أنّ الإيثار كثيرًا ما يفيد أفراد الحيوانات حين يكون متبادلاً، فكذلك نزعات الخير موجودةٌ فينا لأنها قد تفيدنا كأفرادٍ على المدى الأبعد؛ فالشاب الذي يحسن إلى أقاربه يتوقع أن يردّوا له الجميل حين يشيخ ويتقدم به العمر، والغني الذي يكرّم الفقراء قد يحمي نفسه من حقدهم الذي سيهددّه لاحقًا، والتّاجر الذي يتعامل بأمانةٍ ستتحسن سمعته وغالبًا سيحافظ على زبائنه مما سيمكّنه من المزيد من الرّبح والازدهار المالي المستقبلي، وهكذا فالخير كثيرًا ما يكون له مردودٌ نفعيٌ واضحٌ وملموسٌ على من يقوم به.

ولكنّنا نؤكد مرةً أخرى بأنّنا لا نقول أن ارتباط الأخلاق بالمصالح هو "الدّافع" الواعي وراء كل فعلٍ أخلاقيّ بالضّرورة، وإنما نقول بالأحرى أن ذلك الارتباط بين الأخلاق والمصالح هو "التّفسير" البيولوجي لوجود الأخلاق ذاته كغريزةٍ لاواعية بداخلنا.. ومن وجهة نظرٍ لادينية فنحن نعترف أن المسألة كلها نابعةٌ عن المصلحة الماديّة؛ إذ أنّ مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع نّابعتان عن غريزتي السّعادة والألم البيولوجيتين، فلا غموض ولا روحانيات ولا قوانين مقدسةٍ مفروضةٍ من آلهةٍ مزعومة، بل المسألة كلها من الطّبيعة وإليها.

ماذا عن "المعضلات الأخلاقيّة"؟

بالطّبع، أنّ من يظن أن هذا الفهم للأخلاق (كمصلحةٍ للمجتمع) -أو غيره من الأفهام- سيجيب عن جميع الأسئلة الأخلاقيّة ويحلّ جميع المعضلات والمشاكل الخاصة بها دفعة واحدة، فهو مخطئ، لا بل ستظل هناك دومًا مسائلٌ محيرةٌ كثيرةٌ ناتجةٌ عن عدة أمور:

 فمثلاً، السّلوك الواحد قد يترتب عليه حدوث مصالح وأضرار في آنٍ واحد، مما يستلزم نوعًا من الموازنة بين المكاسب والخسائر، لكي نحكم على مدى "أخلاقيّة" ذلك السّلوك سلبًا أو إيجابً.


وهناك أيضًا مشكلة تباين تعريف "المجتمع" ذاته، ما بين دوائر ضيقةٍ إلى دوائر أوسع فأوسع؛ فكلمة "المجتمع" قد يُقصد بها أسرتك، أو قد يُقصد بها أيضًا عشيرتك أو بلدك أو قوميتك أو حتى المجتمع الإنساني عمومًا، بل وقد يمتد مفهوم "المجتمع" واسعًا ليشمل جميع الكائنات الحيّة بإطلاق - وتلك الدّوائر المجتمعية المختلفة قد تتضارب مصالحها معًا، مما يعقّد المسألة الأخلاقيّة أكثر، ويستلزم المزيد من الموازنات.

 ثم نشير كذلك إلى التّعدد كطبيعةٍ من طبائع المجتمعات الإنسانية: نحن البشر مكوّنون من عشائر وقوميات وأعراق ودول وطوائف... إلخ، مما يعني بالتّالي تعدّد المصالح فيما بين تلك المجتمعات، وأحيانا تصادمها معًا – فمع مصلحة من تكون الأخلاق؟ هنا قد يبدو أن لكل فريقٍ أخلاقه الخاصة النّابعة من مصلحة جماعته الخاصة!


وربما تكون تلك المعضلة الأخيرة تحديدًا هي السّر في أننا نرى مفهوم الأخلاق يكاد ينقلب رأسًا على عقب وبشكلٍ مدهشٍ في أثناء الحروب – حيث تتضارب مصالح الجماعتين معًا، فإذا بسلوكيات العنف والقسوة والخداع – وهي قيمٌ مكروهةٌ أصلاً - تغدو قيما مستحبةً لأنها تساهم في حماية "مجتمعنا" في تلك اللحظة وتكون موجّهةً ضد الأعداء، بينما قيم الرّحمة والتّسامح والصّدق -وهي قيمٌ محبوبةٌ أصلاً- تغدو قيما مكروهةً لأنها تضادّ حماية المجتمع في تلك اللحظة وتكون موجّهةً لصالح عدوّه، ونلاحظ أن هذا الانقلاب -الاستثنائي- لمفاهيمِ الأخلاقِ هو من أكبر الأدلة على ارتباطها الجذري بالمصالح – فكما أنّ المصالح تتغير فكذلك الأخلاق، وكما أنّ لكلّ مجتمعٍ مصالحه فكذلك لكل مجتمعٍ أخلاقه.

إذًا، فستبقى المشاكل والمعضلات الأخلاقيّة الصّعبة والمحيرة موجودةً دائمًا بدين أو بلا دين، فهي جزءٌ من تعقيدات ذواتنا ومجتمعاتنا كبشر.

لكن الجديد هنا أن الفهم الطّبيعي اللاديني للأخلاق يجعلها أمرًا دنيويًا يمكن فهمه اجتماعيًا ونفسيًا وبيولوجيًا، بل وربما يمكن حسابه وقياسه، وحتى يمكن النّقاش حوله بشكلٍ عقلانيٍّ ومنطقي - بل وأقول علميًا: فالأخلاق كما فصّلنا لها نظريًا أساسٌ واضحٌ (سمّه "مطلق" إن شئت) هو غريزتا السّعادة والألم عند الكائنات، ثم أنّ لها عمليًا جوانب نسبيةً كثيرةً تتعلق بتعقيدات المجتمعات واختلافها كما ذكرنا - مما يمكن الجدال حوله طالما الأساس المشترك مفهومٌ ومتفقٌ عليه.

وهكذا يمكن للبشر مواجهة المشاحنات الأخلاقيّة عن طريق السّعي في موازنة المصالح ومحاولة تقريب وجهات النّظر والاجتهاد لتوسيع دائرة الأخلاقيّات بواسطة – فمثلاً - نشر ثقافة السّلام والتّسامح القومي والعرقي والطّائفي بين المجتمعات المختلفة، والترويج للقيم الإنسانية العامة كالعدالة والحرية والتّكافل، مع اللجوء في حلّ المشاكل إلى المساومات المختلفة والعهود والمواثيق ومحاولة ضمان توازن القوى.. إلخ، علما بأن هذا لن يؤتي ثماره الكاملة بين يومٍ وليلة، بل هو كفاحٌ إنسانيٌّ مرهقٌ وطويلٌ وحتمي، تخوضه البشرية حاليًا - ومن يظنّ أنه يوجد عصًا سحريةً يمكنها تقديم البديل الأفضل فهو واهم.


الأديان –على الجانب الآخر- لم ولن ولا تحلّ تلك المعضلات الأخلاقيّة بل لعلّها تزيد الطّين بِلة، حين تمنح كل فرقةً مسحةً من التّقديس المتطرف، تبعًا لنظرية "الحق المطلق" و"جماعة الرّب" التّي مررنا بها في الجزء الأول، مما يجعل المساومات العقلانية السّابقة بين أطرافٍ تقّدس نفسها شبه مستحيلة، وذلك على الرّغم من أنّ معظم الأديان في أحكامها قد اضطُرّت للاعتراف (ولو جزئيًا) بأهمية مبادئ العقلانية، ولجأت كثيرًا إلى مبدأ الضّرر والمنفعة، فنرى بعض الأديان (كالمسيحيّة) تقبل تحكيم المبادئ العلمانية في الدّولة وبعض قوانينها، ونرى الإسلام مثلا يضمّ قواعد مثل "المنافع والمفاسد" و"التّعزير" إلى تراثه الفقهي فيستخدمها - بالإضافة للحدود المنصوص عليها - كوسائل مساعدةٍ لاستنباط الأحكام الشرعية، وهكذا نرى مقولاتٍ مثل أن "الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن" وغيرها مما يعتبر قبولاً عمليًا لمبدأ المصلحة واعترافًا ضمنيًا بـ"دنيوية الأخلاق" وأنّ "الرّوحانيات" و"المجردات" وحدها لا تكفي أبدًا.

بالتّالي -رغم أيّ اختلاف- فإنّ مبدأ التّقييم العقلاني للمصالح هو السّائد في جميع الأحوال.

وبما أن رحلة الإنسان عبر التّاريخ هي رحلة فهمٍ وعقلنةٍ للظواهر الطّبيعية من حوله وفي داخله، بحيث أن ما كنّا نحسبهُ في الماضي غموضًا وخوارقًا وأرواحًا وسحرًا...صرنا اليوم نحيط به بأفهامنا ونخضعه لحسابنا وقياسنا، وقد حان الوقت كذلك لضمّ الأخلاقيّات إلى القائمة.

الخُلاصة أنه في عصر العلِم لا يصحّ أبدًا أن نترك للأديان احتكار القيم الأخلاقيّة؛ إذ لا حاجة بنا أبدًا إلى روحانياتٍ أو آلهةٍ أو نبواتٍ أو نصوصٍ مقدسةٍ كي نفهم الأخلاق ونطبّقها، بل إنَ جميع الشواهد تخبرنا أنه - وعلى العكس مما تطرحه الأديان - فإن "عقلنة" الأخلاق هي الأمل الوحيد للوصول إلى حلول بشأن المعضلات الأخلاقيّة المختلفة، وبصياغةٍ أخرى: كلما فهمنا ظاهرة الأخلاق كلما صرنا أقدر على تطبيقها بشكلٍ أفضل.

الختام

هل المؤمن أفضل أخلاقًا من الملحد؟

"إنّ الأخلاق هي أن تفعل الصّواب بغضّ النظر ع يُقال لك؛ أمّا الدّين فهو أن تفعل ما يُقال لك بغضّ النظر عن الصّواب" — المفكر الأمريكي هنري لويس منكن

"إنّ الدّين إهانةٌ للكرامة الإنسانية، فبه أو بدونه سيقوم الأشخاص الجيدون بأفعالٍ جيدة وسيقوم الأشخاص السّيئون بأفعالٍ سيئة، ولكن حتى يقوم الأشخاص الجيدون بأفعالٍ سيئة، فهذا يتطلب دينًا" — الفيزيائي ستيفين واينبرغ

"لم يجبني أحد على هذا التّحدي أبدا : سمِّ لي سلوكًا أخلاقيًّا واحدًا يفعله المؤمن باسم إيمانه، ولا يمكن أن يخرج من ملحد، والآن، سمِّ لي – وهذه أسهل - سلوكًا إجراميًا يفعله المؤمن ولا يمكن أن يخرج من ملحد" — الكاتب البريطاني الأمريكي كريستوفر هيتشنز، ذاكرًا مثالين للحالة الأخيرة: تشويه أعضاء الأطفال (الختان) والعمليات الإنتحارية الإسلامية"


"ما هي تلك الأخلاق الثابتة المطلقة التّي قد يمارسها الشخص المتدين؟ هل هي مثلاً: رجم النّاس من أجل الزنا؟ القتل بتهمة الرّدة؟ العقوبة على خرق قدسيّة يوم السّبت؟ هذه كلها أخلاقٌ مطلقةٌ مؤسسةٌ على الأديان، وأنا لا أعتقد أنني أريد أخلاقًا مطلقة! بل أعتقد أنني أريد أخلاقًا تم التّفكير بها وعقلنتها وإخضاعها للجدل والنّقاش، وبُنيت - لنقلْ- على تصميم ذكي! ألا يمكننا تصميم مجتمعنا كي يحتوي الأخلاق التّي نريد أن نعيش فيها؟ أنظروا إلى الأخلاقيّات المقبولة من النّاس العصريين في القرن الحادي والعشرين: نحن لم نعد نؤمن بالعبوديّة كما كنا، صرنا نؤمن بالمساواة مع النّساء، نؤمن بأن نكون رقيقين ولطفاء مع الحيوانات، وهذه بكاملها أمورٌ حديثة، لا نجد لها سوى آثارًا قليلةً جدًا في النّصوص الكتابية والقرآنية، بل إنّها أمورٌ تطورت عبر زمنٍ تاريخيٍ، من خلال توافق الآراء والمنطق والعقلانية والنّقاشات الواعية والجدل والنّظريات القانونية والفلسفة الأخلاقيّة والسياسيّة، كما أنها لم تأتِ من الدّين، لدرجة أنك تحتاج إلى انتقاء النصوص الدينية الجيدة حتى تصل إلى ما يُسمى أخلاقيًّا، كما عليك أن تفتش في الكتاب المقدس أو القرآن وتجد آيةً عرضيةً هنا أو هناك تعرض صورةً مقبولةً عن الأخلاق، ومن ثم تهتف "أنظر، هذا هو الدّين" وتتجاهل باقي الأجزاء البشعة، قائلاً "أوه نحن لم نعد نؤمن بتلك الأمور، نحن كبرنا على تلك الأمور"، وبالطّبع فلقد كبرنا على تلك الأمور! وذلك بفضل الفلسفة الأخلاقيّة العلمانية والنّقاش العقلاني"  — البروفيسور ريتشارد دوكنز في أحد اللقاءات، ردًا على سؤال من مسلم حول افتقاد الملحد للأخلاق المطلقة.


في عام 1997 أصدر المكتب الفيدرالي للسجون الأمريكية Federal Bureau of Prisons استقصاءًا حول النّسب الدّينية للمساجين، تبين منها الأرقام التّالية:  نسبة الملحدين بين السّجناء: 0.21 %؛ نسبة المسلمين بين السّجناء: 7.3 %

فإذا علمنا أن نسبة إجمالي الملحدين في الولايات المتحدة )(حسب إحصاء مركز PEW للدراسات) هي حوالي 1.6 %، بينما نسبة إجمالي المسلمين تقدر ب 0.6 %، فلعل تلك المقارنة العابرة تمثل لنا – لا أقول دليلاً ولكن - مجّرد عمليةٍ استرشاديّةٍ بسيطةٍ على أنّ ترك الدّين لا يعني بالضّرورة سوء الأخلاق: فالشاهد أن الملحدين نسبتهم التّمثيلية في السّجون قليلةٌ للغاية - علما بأن العديد من الإحصائيات في دولٍ أخرى تعطي نتائج مشابهة.

(ملحوظة: إن الأرقام المذكورة هي الأرقام المنشورة رسميًا وقد استشهد بها كثير من الكتّاب، لكن في عام 2007 ، قام أحد الصّحفيين واسمه هيمانت ميهتا Hemant Mehta بمراسلة المكتب الفيدرالي طالبًا منهم الأرقام المدققة الأحدث، وردّوا عليه بأن نسبة الملحدين في السّجون تبلغ 0.07 %، وهو رقمٌ أقل من سابقه، وقد نشر ذلك في إحدى مقالاته الإلكترونية)


ولو أردت مقارنةً تطبيقيةً أكثر عموميةً بين الأخلاق الدّينية وبين غيرها، فما أسهل أن تُجري مراجعةً ذهنيةً سريعةً عن الماضي الأليم الذي ساد فيه الإيمان وامتاز بالحكم الدّيني للشعوب؛ إذ يمكنك تذكر مئات النّصوص الدّينية المقدسة التّي تقرّ- وتأمر أحيانًا- بالقتال وغزو أراضي الغير والسّلب والنّهب والأسر والرّجم والجلد والقطع والاستعباد والدّكتاتورية، والتّي تروّج لقتل المرتد واضطهاد الأقليات وقمع المرأة وزواج الطّفلات، ويمكنك كذلك تذكر العدد الهائل من الحروب والغزوات والمجازر والجرائم التّي أقيمت باسم الرّب الواحد وتحت رعايته على مدار تاريخ الإنسانية الطّويل - أو في أقل تقدير يمكنك تذكر الجرائم التّي كان الدين والإيمان موجودين ولم يمنعاها!، كما يمكنك تذكر الغزوات الإسلامية والحروب الصّليبية ومحاكم التّفتيش للمفكرين والعلماء والفتن الطّائفية وصولاً إلى جرائم الإرهاب الدّيني المعاصر، فلو تأملنا ذلك الحال الماضوي – المستمر إلى اليوم في المجتمعات التّي لا تزال دينية- وقارنّاه بالمجتمعات العلمانية الحديثة في الغرب والشرق، فسيبدو لنا الفارق ساطعًا كالشمس لا يحتاج إلى توضيح.

ولو أردتَ مقارنةً معاصرةً عابرةً فأمامك الدّول الدّينية والدّول العلمانية: قارن أفغانستان وباكستان والصّومال والسّودان واليمن والسّعوديّة وإيران من ناحية، بالسّويد والدّانمارك واليابان وفرنسا وألمانيا وكندا من ناحية أخرى– فهل تحتاج المقارنة إلى توضيح؟

وإن كان الدّين هو الذي يحفظ تماسك المجتمعات أخلاقيا كما يدّعي البعض، فلماذا لا نرى الدّول الأوروبية تنهار بعد أن تخلّت عن الدّين وصارت علمانيةً لادينية، لا مكان فيها لحكم الآلهة أو الكهنة؟ لمْ نرَ تلك الدّول يقوم أهلها على بعض؛ فيقتلون الأنفس ويسرقون الأموال و يهتكون الأعراض، ولكن يبدو أن النّتيجة – بالعكس - هي المزيد من الازدهار المدني والإنساني الأخلاقيّ والاجتماعي الذي يجعل أصحاب الدّول الدّينية يتركون بلادهم أفواجًا ليلتحقوا بـ"بلاد الكفار"،

وما ينطبق على الغرب ينطبق على الشرق - فبُعد المجتمعات عن الدّين يبدو وكأنه يساهم في تقدمها وازدهارها، وهذا نراه حتى في الدّول الإسلامية التّي نالتّ حظًا من التّقدم كماليزيا أو تركيا مثلاً - إذ أنها لم تصل إلى ما وصلت له إلا بتقليص سلطات الدّين.


لا نقول أن العلمانية ضامنةٌ للتقدم الإجتماعي والأخلاقيّ طبعًا، ولكن لعلها شرط من شروطه سواءً على المستوى المادي أو الإنساني، وبمعنى آخر: ليس كل الدّول العلمانية متقدمة، ولكن كل الدّول المتقدمة علمانية، وليس كل الدّول المتخلفة دينية، ولكن كل الدّول الدّينية متخلفة.


وكمثال مقارن آخر نشير إلى ما يسمى "مؤشر السّلام العالمي" (بروتوكول جنيف ،)Global Peace Index وهو معيارٌ من وضع فريقٍ عالمي من الخبراء، يهدف إلى قياس حالة الدّول من حيث درجة "السّلام" (اعتمادًا على حالة الصراعات والقلاقل بأنواعها في كل دولة)؛ فبنظرة سريعة لنتائج التقييم نجد تلازمًا شبه تام بين مدى سلمية الدّولة ومدى لادينيتها أو علمانيتها: حيث نجد في المقدمة دولاً مثل أيسلندا والدّانمارك ونيوزيلند وسويسرا واليابان والسّويد، بينما نجد في المؤخرة دولاً ذات أغلبيةٍ متدينةٍ (و تحديدًا دولاً مسلمةً، وأكثر تحديدًا هي دولٌ يوجد للشريعة الإسلامية حضورٌ ملحوظٌ فيها) مثل أفغانستان والصّومال وسوريا والعراق والسّودان وباكستان واليمن ونيجريا وإيران.


هنا نفتح قوسًا، ونتذكر أن كثيرًا جدًا من إخواننا العرب حين يتحدثون عن "الأخلاق" لا يخطر ببالهم سوى الجنس، وهذا النّوع من الأخلاقيّين لدينا لا يؤرقهم شيءٌ مثل الهوس المرعب من تفشي الفسق والفجور والانحلال والشذوذ في المجتمعات، ولا تقاس الأخلاقيّات عندهم سوى بكمية القماش التّي تحيط بجسد المرأة وتغطيه؛ أمّا أخلاقٌ كالصّدق والأمانة والرّحمة والنّظام والمروءة والتّعاون... إلخ، فلا تعني عندهم سوى كلماتٍ محفوظةٍ يتم ترتيلها بين الحين والآخر دون فهمٍ أو تطبيق - فالخلق الذي يعنيهم حقًا وبكل إخلاص هو ما يتعلق بالجنس والمرأة وفقط، ولهؤلاء لا نملك إلا التّوضيح أن السّلوكيات الشخصية تخصّ صاحبها، وأن الأخلاق الجنسيّة – كجزءٍ من الأخلاق عمومًا - شرطها الوحيد أنه لا ضرر بالأفراد أو بالمجتمعات، لذلك يمكنك أن تعيش كما تشاء أو كما يأمرك معتقدك، ولكن لا يحقّ لك فرض نمط حياتك هذا على غيرك تحت شعارات الدّين أو الفضيلة أو العرف، كما لا يحق للغير فرض نمط حياتهم عليك، فطالما كان السّلوك فرديًا، لا يمكن الادّعاء إنك أكثر أخلاقيّة منه أو العكس.

وربما يتعين على هذا المؤمن الذي يلعن الانفلات والانحلال الغربي -طالما أنّنا بصدد المقارنات- أن يتذكر ما يتناساه أحيانًا من مظاهر الانحلال والشذوذ (حسب مصطلحاته) في قلب أديانه التّي يعتنقها وكتبه المقدسة التّي يؤمن بها وفي سلوكيات أنبيائه الذين يوقرهم: عليه أن يتذكر- كأمثلةٍ سريعةٍ لا تخلو من طرافة -زيجات أبناء آدم وحواء والتّي كانت علاقاتٍ محرمةً بين إخوة (أي أن البشرية كلها أولاد سفاح محارم في نظر الأديان!)، ويتذكر أيضًا زواج ابراهيم بأخته (كما ورد في الكتاب المقدس) وسعيه للقوادة بها أكثر من مرة عند الملوك (كما ورد في سفر التّكوين وأيضًا في الحديث الصّحيح عند المسلمين)، ويتذكر عرض لوط بناته على قومه، والزيجات المفرطة عددًا لأنبياء كسليمان ومحمد، وأضف إلى ذلك السّماح الإسلامي بزواج الصّغيرات وزواج المتعة (و هو لا يختلف عن "الزنا") وكذلك رضاعة الكبير وبالتّجارة الجنسيّة للجواري (ما ملكت أيمانكم) – والمرتبط بإجماع الفقهاء على أن عورة الجارية تكون من السّرة إلى الرّكبة! أي أنه كان من المسموح للمرأة (الجارية امرأة أليس كذلك؟) فوق أنها تباع وتشترى أن تسير عارية الصّدر بشرع الله ورسوله، وبعد هذا يأتي الأخ الفاضل ليلعن الغرب الدّاعر المنحل!


وطالما نتحدث عن العبوديّة فلنغلق قوس الأخلاق الجنسيّة وننتقل إلى مقارنة أخرى ذات دلالة؛ إذ مارست الدّول الدّينية تجارة العبيد والجواري لقرون، ولم يحرمها أي نص ديني (بل هناك نصوص إسلامية ومسيحيّة تحض العبد على طاعة سيده)، وكانت المدن العربية مثلاً - عبر تاريخ الحضارة الإسلامية العظيمة - تحوي كل منها سوق نخاسةٍ مركزيٍّ يتم فيه عرض الرّجال والنّساء والأولاد شبه عراة يمر التّجار عليهم يتفحّصونهم كما تُفحص البهائم، بينما الذي نجح في منع تلك العادة القذرة هي الدّول الغربية العلمانية الكافرة المتحررة من سلطات الكنيسة منذ قرنين، وبمساعدة الأمم المتحدة التّي ضغطت طويلاً على الدّول الإسلامية كي تتخلى – مجبرة إجبارًا - عن تجارة العبيد، وتم ذلك في النصف الثاني من القرن العشرين: فحصل أن منعت قطر تجارة الرّق عام 1952 ، والسّعوديّة عام 1962 ، واليمن 1962 ، والإمارات1963 ، وعمُان 1970 ، وموريتانيا 1981 ، وهذا مثالٌ عمليٌّ واحدٌ لتفوّق الأخلاق العلمانية "الماديّة الإنسانية"، على الأخلاق الدّينية "الرّوحانية الإلهية".


ولكن، هل يعني ذلك أنه قبل نشوء الأديان الابراهيمية لم يكن هناك جرائم؟! وتاريخيًا، ألم تُشن حروبٌ و يُمارس الإرهاب وتُرتكب جرائم بشعة قديمًا وحديثًا بعيدًا عن الأديان وتحت أسماء علمانيةٍ مختلفةٍ مثل الوطنية والقومية والشيوعية والنّازية وأحيانا الدّيمقراطية؟

بالطّبع حدث ذلك كثيرًا، فالكل يرتكب الخير والشر كما قلنا في المقدمة، ولا يوجد معتقدٌ – نكرّر- يجعلك ملاكًا أو شيطانًا؛ فالإجرام وسوء الخُلق كان وسيظل جانبًا موجودًا في البشر على السّواء (لأن لهما أسبابهما التطورية كما قلنا)، وبديهيٌ أنّ كل جريمةٍ تستحق الإدانة على السّواء، ولكن، هنا يتجلى الفارق الكبير بين الأخلاق الدّينية والعلمانية، وهو أن الثانية لا تدّعي الكمال ولا تزعم أنها مُنزّلة، وبالتّالي فهي تعترف بنقصها وتقر بأخطاءها وتستوعبها وتناقشها، ومن ثم فهي تتطور وتتحسن باستمرارٍ إلى الأفضل، وهكذا تمّت مكافحة ملوثات الماضي في الغرب مثل الاستعمار والعنصرية واضطهاد الأقليات وغيره، وهكذا تحديدًا تتقدم المجتمعات العلمانية - في الشرق والغرب - إنسانيًا وتُطوّر من نفسها أخلاقيّا: عن طريق تبنّي التّغيير والاعتراف بالخطأ والجدال المستمر حول ما هو الأفضل، وهكذا تتخلف المجتمعات الدّينية (إلا قليلاً): عن طريق التّمسك بالنّصوص المُطلقة المُقدّسة الجامدة ورفض النّظر إلى تداعيات الواقع واحتياجات البشر.


حَدِّثْ علمانيًا إنسانيًا عن جرائم حاكمٍ علمانيٍ مثلاً، وستجده على الأرجح يدينها بشدة، ثم حدِّث مؤمنًا عن جرائم أنبيائه الواردة في الكتب المقدسة، وستجده يدافع عنها ويبررها بشتى الطّرق، وهذا يُلخص الفارق باختصارٍ بين الحُرِّ الذي يتبع المبادئ ويقيم على أساسها الأشخاص، وبين العبد الذي يقدس الأشخاص ويفصّل المبادئ على قياسهم.

ختامًا فالنّظرة اللادينية للأخلاق والمبادئ والقيم هي أنها قوانينٌ سلوكيةٌ ذات أصلٍ بيولوجيٍ وتهدف إلى مصلحة الجماعة، وهي قوانينٌ عامةٌ لا تدّعي الكمال أو المثالية أو الإطلاق، وإنما تقوم على العقلانية والجدل وتتطوّر باستمرارٍ تبعًا لتغير المجتمعات ومصالحها؛ إذ أنّ الإنسان العاقل والمفكر والإنساني يحملُ مسؤوليةً نحو غيره من البشر بل وسائر الكائنات، وسوف يلتزم بالأخلاق تجاههم قدر المتاح، ليس طلبًا لرضا سيدٍ معبودٍ ولا خوفًا من عذاب نارٍ أخروية ولا شهوةً إلى جنات الجنس والخمر، وإنما نلتزم بالأخلاق ببساطة لأننا لا نريد العيش في غابةٍ ضاريةٍ قاسية، بل لأننا كلنا كبشر نتمنى لأنفسنا سُمعةً جيدةً ولأهلنا ولأبنائنا ولأحبابنا مجتمعًا أكثر عدلاً وحريةً وتنظي وتعاونًا وتسامحًا وألفةً ومحبةً، فنحنُ ببساطةٍ نعاملُ الآخرين بما نودّ أنْ يعاملونا به.

الجزء الأول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق