الأربعاء، 21 مايو 2014

التيارات الإلحادية في الهند القديمة




-"إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق الحواس.. و حتى العقل لا يجوز الركون إليه و الثقة به, لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد في جوابه على الملاحظة الدقيقة و التدليل الصحيح فحسب, و إنما يعتمد كذلك على افتراض أن المستقبل سيجيء على غرار الماضي..

-الروح وهم من الأوهام و الإله باطل من الأباطيل.. المادة وحدها هي الحقيقة التي لا حقيقة سواها..

-الجسم مجموعة ذرات اجتمع بعضها ببعض, و ما العقل إلا مادة تفكر, و الجسم هو الذي يشعر و يرى و يسمع و يفكر, فليس هناك خلود و لا عودة إلى الحياة..

-الدين كله خلط و هذيان و سفسطة خادعة.. و إذا اعتقد الناس بضرورة الدين فما ذاك إلا لأنهم تعودوه..

-أما الأخلاق فهي حاجة بديهية, و هي عرف اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع, و ليست بالأمر الصادر عن الله.. و الطبيعة لا تأبه لخير أو شر, لفضيلة أو رذيلة, و هي تشرق شمسها على الأوغاد و القديسين, و لا تفرق بينهم.."

(
من معتقدات الكارفاكا..قصة الحضارات لويل ديورنت- الكتاب الثالث)

الإلحاد في الهند
في لقاء له مع إحدى المجلات قال الإقتصادي و الفيلسوف الهندي الحائز على نوبل أمارتيا سن:

((
لقد اعتاد الناس رسم صورة للهند على أنها بلد روحاني و يتمحور بشكل أساسي حول الدين, رغم حقيقة امتلاك السنسكريتية لتراث هائل من أدب الإلحاد ربما أكثر من أي لغة كلاسيكية أخرى.. الفيلسوف مادافا أكارفا كتب في القرن الرابع عشر كتابا عظيما يتحدث فيه عن تاريخ جميع المدارس الفكرية داخل إطار الهندوسية, و كان الجزء الأول منه عن الإلحاد - و هو عبارة عن مرافعة قوية و سرد لحجج بينة لصالح الإلحاد و المادية..)) ا.هـ

الكتاب المقصود يسمى SARVA-DARSHANA-SAMGRIHA سارفا- درشانا- سامجريها, و يعتبر أهم مرجع لأفكار الهنود الملحدين: الكارفاكا..

فمن هم الكارفاكا بالتحديد؟

كارفاكا Cārvāka - أو اللوكاياتا Lokāyata هم أتباع مدرسة فكرية ظهرت في الهند في مرحلة مبكرة من كتابة كتب الأوبانيشاد , أي حوالي القرن السادس قبل الميلاد, و قيل أن نشأتها تعود لأقدم من ذلك بكثير..

و الكارفاكا هي فلسفة "مهرطقة" تماما, لا يقدس أصحابها كتب الفيدا البراهمانية و لا يعترفون بسلطة الكهنة و يسخرون من الممارسات الهندوسية التقليدية.. هم يعتنقون الإلحاد التام (نير إسفارا فادا) أي لا يصدقون في وجود الآلهة و لا الأرواح و لا الآخرة و لا الأنبياء و لا الكتب المقدسة, بل يؤمنون فقط بالماديات القائمة على المشاهد و الحسي و التجريبي..

و الجدير بالذكر أن أتباع تلك الفلسفة انقرضوا تماما حوالي 1400 بعد الميلاد و لم يبق شيء من كتاباتهم.. و كل ما نعرفه عن أفكارهم إنما هو من خلال كتابات معارضيهم المؤمنين الذين اقتبسوا من أقوالهم للرد عليها و تفنيدها..

و لم يكن هؤلاء هم التيار الوحيد الذين لا يؤمنون بالآلهة و الأديان, فعبر التاريخ الهندي كان هناك نوعان من الفكر:
astika –
أستيكا, و تعني حرفيا "الذين يقولون بوجودها "- و المقصود السماء أي الآلهة, و هم المؤمنون بالأديان و كتب الفيدا,
و هناك nastika ناستيكا أي "الذين يقولون بعدم وجودها", و هم غير المؤمنين بالفيدا..

و هنا سنذكر باختصار الإتجاهات الهندية التي لا تؤمن بالكتب المقدسة و لا بالآلهة..


في الهندوسية
الهندوسية لها ست مذاهب أو مدارس رئيسية معروفة.. و احدة من تلك المدارس تسمى سامخيا Samkhya أو سانيخا, و لعلها الأقدم.. و السانيخا مذهب إلحادي ليس فيه إلها خالقا شخصيا (ishvara- إشفارا), بل هو يقسم العالم لمادة صماء (براكريتي) و مادة حية (بوروشا), و يمكن ترجمتهما بالمدرك (بفتح الراء) و المدرك (بكسرها)..

و هناك مدرسة هندوسية أخرى هي الميمامسا Mimamsa , و هي كذلك لا تتضمن الإيمان بإله, و إنما تتركز أساسا حول مفهوم الكارما karma أي قانون تأثير أعمال المرء..

و نلاحظ أن تلك المدرستين تنتميان لإلحاد "أستيكا" لأنهما يقران كتب الفيدا..
أما المذاهب القادمة فهي خارجة عن الهندوسية و لا تؤمن بالفيدا, و بالتالي تنتمي للـ"ناستيكا" ..

البوذية
رغم أنه هناك بعض أفرع البوذية (الماهايانا) ترفع من شأن بوذا نفسه فتجعله في مصاف الآلهة, إلا أن أصل البوذية واضح تماما في أنها لا تؤمن بإله خالق, و المنقول عن بوذا يوحي بشخص ملحد لا يؤمن بإله أو آلهة..

و تعاليم بوذا أخلاقية صرفة, فكان يأبى دائما الدخول في نقاشات عن الخلود أو الجنة أو إن كان للعالم بداية أو نهاية , و كان لا يرى ضرورة أو جدوى من البحث عن الإله أو التساؤل إن كانت هناك حياة بعد الموت , إنما يعتقد أن البحث في تلك المسائل لا يؤدي للحكمة و السلام بل إلى الخصومة و الكراهية..

و ينسب لبوذا قوله: "إن الكهنة و الحكماء الذين يتكلمون عن الله و لم يروه إنما هم كالعاشق الذي يذوب عشقا في محبوبته و هو لا يعرفها و لم يرها, أو كالذي يبني السلم و هو لا يعرف أين يوجد القصر, أو كالذي يريد أن يعبر النهر فيطلب من الضفة الأخرى أن تعبر إليه"..

و كذلك قوله: "اللانهائية أسطورة و خرافة من خرافات الفلاسفة الذين ليس لديهم من التواضع ما يجعلهم يعترفون أن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون"

و البوذيون لا يرفضون وجود كائنات عليا (devas – ديفا) إلا أنهم لا يرونها كآلهة بل هم بدورهم يخضعون لقانون الوجود الأكبر (samsara – سمسارا) الذي يسير كل شيء بصورة تلقائية أزلية..

الجاينية Jainism
هي ديانة أخرى هندية أسسها راهب يدعى ماهافيرا mahavira و هو معاصر لبوذا و الملاحظ وجود تشابهات عديدة بين المذهبين..

و الجاينية تؤمن بالروح و أن الحياة مقدسة بكل صورها.. و هي تتعاطف بشدة مع جميع الكائنات حتى أن أتباعها يمتنعون بصرامة عن إيذاء أقل حشرة..

و رغم إيمان الجاينية العميق بالروح, إلا أنها كالبوذية لا تتضمن إلها خالقا بل تؤمن بالقوانين الأزلية التي تسير الكون تلقائيا..

و من آراء الجاينيين: ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول, بل إن كل طفل يستطيع أن يفند مثل هذه الفرضية بقوله أن افتراض الخالق الذي لم يخلق أو السبب الذي لم يسبقه سبب لا يقل صعوبة في الفهم عن افتراض عالم لم يخلق و لم تسبقه أسباب.. و أنه أقرب إلى المنطق السليم أن تعتقد أن الكون كان موجودا منذ الأزل, و أن تغيراته و أطواره التي لا نهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة, من أن تعزو هذا كله إلى صناعة إله..


حكماء ملحدون
قلنا أن الكارفاكا لا يؤمنون بالآلهة و لا بالروح و لا بالآخرة و لا القيامة و لا البعث و لاتناسخ الأرواح, و هم يقولون أن أسفار الفيدا و الأوبانيشاد ليست إلا "تأليف جماعة من الحمقى المغرورين" , و يرون أن الكهنة "هم موكب من الكلاب يمسك كل منهم بذيل صاحبه"..

و سنحاول أن نورد هنا من القليل الذي وصلنا عن بعضهم:

أجيتا كيساكامبالي Ajita Kesakambali

من أقدم الأشخاص في التاريخ المدون الذين أنكروا الآلهة و الأرواح والآخرة و التناسخ و الكارما وكذلك أي شيء غير مادي, و كذلك أنكر الكارما و نفى وجود أي قيم أخلاقية مطلقة..

"
ليس هناك قيمة للصدقات و القرابين و النذور.. ليس هناك ثمرة و لا نتيجة للعمل الصالح.. الإنسان مكون من عناصر و عندما يموت تعود تلك العناصر للطبيعة مرة أخرى.. إن الحمقى و أرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد, فكلاهما يزول و ينعدم و لا يبقى له وجود بعد الموت..

كابيلاkapilas

"
إن الإله المشخص لا يمكن أن يقام عليه الدليل للعقل البشري, لأن كل ما هو موجود فهو إما مقيد أو مطلق, و الخالق لا يمكن أن يكون لا هذا و لا ذاك, لأنه إن كان مطلقا فهو كامل, و الكامل لا حاجة به لخلق العالم, لأن الخلق عملية تفرضها الحاجة إلى شيء ما, و الكامل لا يحتاج لشيء و إلا فقد كونه كاملا باحتياجه, ثم إن كان الخالق لو كان مقيدا فهو ناقص و لا يمكن أن يكون الناقص إلها, و إذا كان الخالق خيرا لما أمكنه خلق الشر و النقصان الذي نراه في العالم.."

سانيخا كاريكا

من أتباع كابيلا و يقال هو مؤسس المذهب سانيخا الهندوسي الذي مربنا (و قيل مؤسسه هو كابيلا نفسه).. و من أقوال سانيخا :"الشيء لا يخرج من لا شيء, و الخالق و المخلوق جانبان لشيء واحد"..

بريهاسباتي Brihaspati

من مؤسسي الكارفاكا الرئيسيين.. و من أقواله

"
ليس للجنة وجود و ليس هناك خلاص أخير, فلا روح و لا آخرة و لا بعث.. كل هذه وسائل عيش لقوم خلوا من الذكاء و الرجولة.. كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح ترابا أن يعود للظهور على الأرض؟ و إذا كان في وسع الشبح أن يمضي إلى عوالم أخرى فلماذا لا يجذبه الحب الشديد لمن يخلفهم وراءه فيعود إليهم؟ إن هذه الطقوس الباهظة الكلفة لمن يموتون إن هي إلا وسائل كسب دبرها دهاة الكهنة لا أكثر.. فمادمت حيا فانفق حياتك مطمئن البال مرح النفس.."

دارماكيرتي Dharmakirti

و هو فيلسوف بوذي متأثر بالكارفاكا.. و قد كتب دارماكيرتي في القرن السابع الميلادي:

الإيمان بأن الفيدا كتب مقدسة,
الإيمان بإله خالق,
الإستحمام في الماء المقدس من أجل الحصول على البركة,
التكبر على المنبوذين,
ممارسة التوبة من أجل مسح الخطايا,
هي خمس من علامات فقدان العقل!

باياسي Payasi ..؟

نقرأ عن مناظرة -تعود للقرن السادس قبل الميلاد- بين حكيم مؤمن هو كاسابا Kassapa , مع خصم ملحد يدعى باياسي .. و يعلن الثاني عقيدته فينكر الروح و التناسخ و الكارما:
"
ليس هناك عالما آخر, و لا يوجد مولودين من غير آباء, و ليس هناك ثمار للأعمال, طيبة أو شريرة"
ثم يسأل : "إن كان الكهنة و الأخيار يوقنون بوجود حياة أخرى أفضل في الآخرة, فلماذا لا يقتلون أنفسهم؟"

و يوجد تأثر ملحوظ أشار له البعض بين الفيلسوف اليوناني أبيقور في القرن الثالث و الرابع قبل الميلاد و بين أفكار الكارفاكا و كتاباتهم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق