الأربعاء، 21 مايو 2014

بين المسَلَّمة و الإستنتاج





حين نحكم على شيء ما- أي شيء- فإننا ننطلق ابتداءا من مسلّمات ثابتة, ثم في النهاية نصل إلى استنتاجات متغيرة..

مثال تبسيطي :
تصور أنني أقول "زيد إنسان سيء, لأنه لص يسرق الناس.. بينما عبيد إنسان جيد, لأنه أمين و مستقيم و شريف.."

في تلك العبارتين البسيطتين نلاحظ أن المسلّمة الرئيسية في عقلي أن السرقة سلوك سيء يشين صاحبه, و الإستقامة هي سلوك جيد يجعل صاحبه إنسانا جيدا.. أما الإستنتاج المتغير فهو حكمي على زيد و عبيد: بما أن الأول يسرق, إذن, فهو سيء.. و بما أن الثاني مستقيم, إذن, فهو جيد..

هنا استنتاجي متغير لأنه قابل للتغيير لو اختلفت الحقائق: فلو ثبت لي أن زيدا لم يسرق فسأغير حكمه عنه.. و نفس الشيء فيما بخص عبيدا و استقامته..

إلى هنا و المسألة واضحة لا أظن أنها تحوي خلافا..

لكن الملفت أننا – لأسباب متعددة- كثيرا جدا نخلط بين ما يصلح كمسلّمة ثابتة ننطلق منها, و ما هو بطبعه نتيجة متغيرة نصل إليها.. فالتمييز بين الإثنين ليس بالسهولة التي يبدو بها..

لنرجع إلى المثالين السابقين, و لنتصور أن زيدا هو أخي الذي أحبه و أتعاطف معه, بينما عبيد هو خصمي و منافسي الذي أكن له كل مشاعر سلبية..

الآن- دون أن أشعر- ربما تكون مسلّمتي الثابتة و الراسخة التي أنطلق منها هي أن زيد إنسان جيد, بينما عبيد هو إنسان سيء!..

هنا حكمي صدر و هو لن يتغير أبدا مهما حصل!

بالتالي حتى حين أعرف أن زيدا يسرق, فهذا لن يدفعني لاستنتاج أنه شخص سيء.. و حتى حين أعرف أن عبيدا مستقيم, فهذا لن يدفعني لاستنتاج أنه شخص جيد..!

كيف سأتعامل مع مأزق الواقع الحاصل إذن؟ غالبا سأحاول اللجوء إلى كل التبريرات الممكنة لإفساد تلك الإستنتاجات الواضحة و البديهية: فربما مثلا أحاول تخفيف المسألة بالقول أن ما ارتكبه زيد لا يسمى سرقة فعلية , و إنما هو بمثابة استعادة لحقوقه الضائعة من المجتمع الذي ظلمه في مواضع أخرى,

و ربما أفترض من عندي أن زيدا سرق لأنه حتما مضطر لذلك و بالتالي فهو معذور,

و ربما – لو تماديت في التعصب لأخي- أصل لنتيجة مفادها أن السرقة ليست شيئا سيئا حقا!

كل هذه المحاولات التبريرية هي في سبيل الوصول إلى تبرئة زيد من الإدانة .. و كل هذا طبعا هو نتيجة طبيعية لانطلاقي من "حقيقة" مسلّمة مقبولة, منحازة و غير منطقية و لا أساس لها..

على الجانب الآخر تعصبي ضد عبيد قد يقودني مثلا لافتراض أن استقامته هذه ليست استقامة حقيقية بل هي ناتجة عن جبنه و خوفه من المحاكمة و السجن..إلخ

بعيدا عن تلك الأمثلة التبسيطية, فإن هذا الخلط المنحاز بين الثوابت و المتغيرات يحدث كثيرا, و قد يكون السبب الأكبر وراء كل تعصب – أو لعله النتيجة الأكبر لذلك التعصب؟..
 ربما الأدق أن نقول أنه هو و التعصب متلازمان.. 

فالمتعصب لوطنه لن يدين ذلك الوطن أبدا, لأن الثابت عنده الذي انطلق منه هو أن وطنه الأعظم و الأفضل.. بالتالي سيلوي الحقائق و يتلاعب بالألفاظ و يراوغ المنطق حتى لا يتخلى عن مسلّمته تلك..

و انزع كلمة "الوطن" من العبارة السابقة, و ضع مكانها "الأسرة" أو "العشيرة" أو "الزعيم" أو "النبي" أو "الدين" أو "الطائفة" أو "القومية" أو "الأيديولوجية" و ستظل النتيجة واحدة عند جميع المتعصبين فكريا و قوميا و دينيا : كل شيء قابل للتلاعب في سبيل الحفاظ على مسلّمتي الأولى..!

 فالكارثة عند المتعصب أن مسلّمته- النابعة عن هويته و انتماءه و عاطفته- هي ثوابت يقينية لا تتزعزع أبدا , بينما الحقائق و معاني الكلمات و المبادئ الأخلاقية بل و المنطق ذاته هي أمور متغيرة مرنة نسبية عنده..

مع ملاحظة لا ينبغي أن تفوتنا, و هي أن المتعصب لا يسمي مسلّمته مسلّمة, و إنما يسميها استنتاجا, بل و يظن أنه قد وصل لها في النهاية عن طريق الحقائق و المنطق و الأخلاق!.. بينما الحقيقة أنه قد سلّم بها أولا, و من ثم قام بتشكيل الحقائق كالصلصال كي تناسب مسلّمته ,هذا إلى درجة أن المتعصب يخلق منطقه الخصوصي الذي يتماشى مع تعصبه..

و هكذا تصبح المراوغة و قلب الحقائق مهمة مقدسة عند المتعصب , لأنها في سبيل الدفاع عن "حقيقة" مقدسة!

و لا أعتقد أن أحد منا بريء تماما من السقوط في ذلك الخلط و ذلك التعصب- فالإنحياز و التعاطف و الإنتماء تبدو و كأنها أجزاء ملازمة لطبيعتنا كبشر.. و كل ما يمكننا فعله هو أن نراجع- بين الحين و الآخر- أفكارنا, لنسأل أنفسنا هل هي حقا استنتاجات وصلنا إليها, أم هي مسلّمات انطلقنا منها؟..

ثم أن نراجع مسلماتنا تلك, لنسأل أنفسنا: هل تصلح كمسلّمات حقا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق