الأربعاء، 21 مايو 2014

الدين البدائي







قبل تركي للأديان بقليل تحول اهتمامي بشدة إلى الأديان القديمة.. اطلعت قدر المتاح على أوائل العقائد و الطقوس و الأساطير في العراق و الشام و مصر و أفريقيا و اليونان و أوروبا و الهند و الصين و اليابان و أستراليا و أمريكا الجنوبية و الشمالية.. و النتيجة هي بضعة ملحوظات يمكن وضعها معا لتشكل صورة عما أراه العناصر الأساسية المكونة للدين: نشأته و تطوره..

اعتقادي أننا إن فهمنا تلك العناصر فسنتمكن من فهم ليس فقط الأديان القديمة و إنما المعاصرة أيضا.. يبدو لي أن المسألة سارت كالتالي:

------------------------
1- الإنسان القديم (قبل الحضارات) كان يقدس أي شيء تقريبا- و التقديس هنا ما هو إلا نوع من الإحترام و التوقير .. كان يقدس الشجر و الحجارة و البحار و الأنهار و الشمس و النجوم و الكواكب , و حتى البشر..

و يبدو أن ذلك التقديس\الهيبة\الإحترام تجاه الطبيعة و تجاه الأشخاص هو نزعة فطرية طبيعية نحو كل ما يبدو و كأنه يؤثر في حياتنا نفعا أو ضررا.. نحن كبشر نعطي مكانة لكل ما يفيدنا و كل ما يهددنا أيضا..
------------------------

2- التأمل في مظاهر الطبيعة أنتج ما يعرف بـ "الإحيائية" أو "الأنسنة"
animism

و هي اعتقاد الإنسان القديم بأن الأشياء الجامدة تمتلك وعيا و إرادة..

((هي الاعتقاد بوجود الأرواح وأن أي نظام حي أو كائن أو حتى المواد الجامدة أحياناً تمتلك نوعاً من الروح))

لعل تلك النزعة هي -كسابقتها- نزعة فطرية, نراها في الأطفال حتى, حين يتعاملون مع لعبهم على أنها تعي و تشعر.. أو حين يصطدمون بشيء جامد فيضربونه على سبيل الإنتقام!

يبدو إذن أن الإنسان البدائي, كالطفل, كان غير قادر بدقة على التمييز بين ما هو حي و ما هو جامد-  فالكل حي, خاصة إذا كان يتحرك مثلنا..

و بالتالي فحين يرى الإنسان القديم – مثلا- النهر يأتي له بالخير, يعتقد أن النهر يحبه و يكرمه.. و حين يتحول النهر إلى الجفاف أو الفيضان, يعتقد أنه فعل ذلك لأنه غاضب عليه.. و هكذا

-------------------
3- تقديس العظماء من البشر- و تحديدا النزوع إلى تخليد ذكراهم بعد وفاتهم- أنتج ما يعرف بإسم "تقديس الموتى" أو "عبادة الأسلاف"

Veneration of the dead
Ancestor worship

و هو الإعتقاد أن أرواح الموتى من الأجداد تتواجد بيننا و تؤثر في حياتنا..

((هو معتقد ديني أو ممارسة يقوم على اعتقاد بأن المتوفي والذي يكون عادة من أفراد العائلة هو باقٍ بشكل ما ويؤثر على حظ ومصير العائلة))

و يكون هذا أوضح في الأجداد أصحاب السلطة و الإنجازات و الأفضال (زعيم قبيلة أو حاكم)
------------------------
4- فمن أين جاءت فكرة الإعتقاد بالروح ذاتها, سواء في البشر أو في عناصر الطبيعة؟

لنرجع إلى الكلمة ذاتها, و سنجد تشابها بين "الروح" و "الريح", و بين "النفس" بسكون الفاء و "النفس" بفتح الفاء.. هذا التلازم بين الروح و الهواء موجود في كثير جدا من اللغات القديمة الشرقية و الغربية .. مما يعني ببساطة أن الإنسان القديم في لحظة ما شاهد الموت و توقُف الميت عن التنفس, فربط بين الحياة و النفس – كأن الميت لم يعد له نفس, بسكون الفاء أو فتحها!

يرى البعض أن الأحلام كانت الحافز التالي: لربما رأى الإنسان عزيزه المفقود يأتيه في الحلم يكلمه أو حتى ينصحه بفعل معين.. هذا أكد شعوره أن الميت و إن كان قد غادرنا بجسده فلابد أن روحه موجودة بيننا بشكل ما ترعانا و تهتم بنا و تشاركنا حياتنا..
------------------------

5- هذه المعتقدات كلها: الأنسنة و تقديس الموتى و الإيمان بالروح, ستتجسد معا فيما يسمى بالطوطم..

و الطوطم هو كيان معين, يمزج ما بين جد مقدس معبود و عنصر من عناصر الطبيعة (غالبا حيوان, أو ربما شجرة).. و يتخذ رمزا قوميا للقبيلة..

((الطوطم ( هو أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يقدس باعتباره المؤسس أو الحامي.))

و يعتقد أفراد القبيلة أن روح جدهم المقدس تمثلت في الطوطم, ممتزجة بروح كائن من الطبيعة مقدس أيضا.. و يكون ذلك الكائن بمثابة رمز قومي للقبيلة يحميها و يرعاها و يميزها عن غيرها من القبائل, و يتم تقديسه من الكل و تصنع له التماثيل..

هنا نلاحظ بداية امتزاج التقديس الديني بالقومية.. و نلاحظ أيضا أن الطوطم هو أول نسخة إنسانية مما سيسمى لاحقا بـ "الإله"..

------------------------
6- تلك الآلهة الوليدة, و التي لا تعدو كونها رموزا قبلية قومية قائمة على مزيج من أرواح جدود مقدسة و عناصر طبيعية, بدا للقدماء أنها تحفظ أفراد القبيلة من الخطر و تشفيهم من الأمراض و تحميهم من الكوارث الطبيعية.. لكن بما أن الحياة لا تكون دائما وردية, فتلك الآلهة أيضا بدا أنها تغضب أحيانا على أبناءها و تتخلى عنهم في بعض الأوقات.. فكيف يمكن التعامل مع تلك التقلبات؟

بالتالي كان لابد لأن تظهر الحاجة لاسترضاء الآلهة\الأرواح\الأجداد\الطواطم.. و هنا يأتي دور السحر..
------------------------

7- السحر عموما هو أحد وسائل الإنسان القديم للتعامل مع الطبيعة, أو للتحكم فيها إن لزم الأمر.. و كما أن بعض أنواع ذلك التعامل مع الطبيعة يكون منطقيا و مباشرا و مفهوما لنا اليوم (حرث الأرض بهدف زراعتها, قطع الأشجار بهدف بناء منزل..إلخ) , فكذلك بعض أنواع تعامله كانت غير منطقية, و ناتجة عن ربط غير واقعي بين بعض التصرفات و بعض النتائج المتوهمة (الرقص بهدف إنزال المطر, الصراخ بهدف إزالة الكسوف الشمسي..إلخ)..

بمعنى آخر الإنسان القديم لم يكن قادرا على التمييز بدقة بين الفعل المثمر و الفعل غير المثمر, فقد يصادف مرة أن يرقص فتنزل الأمطار بعد رقصته, فيترسخ في ذهنه أن هذه مرتبطة بتلك.. وقد يعتقد أن الشمس تظلم في الكسوف لأن ذئبا عملاقا ابتلعها, و بالتالي هو يصرخ لإخافة ذلك الذئب..إلخ, تلك الطقوس السحرية هي تصرفات كان يقوم بها الإنسان البدائي, متوهما أنها تؤثر في الطبيعة لصالحه..

و السحر هنا قد يكون بلفظ كلمات, أو كتابتها, أو أداء حركات, أو إصدار أصوات , يظن أنها تؤثر في الطبيعة..

و لأن الطبيعة عند الإنسان الأول هي أرواح حية واعية , فقد استخدمت أنواع السحر للتعامل مع تلك الأرواح بهدف توجيهها لصالح الساحر..

------------------------
8- و هنا ظهر دور ساحر القبيلة (الشامان)

و هو بمثابة "الأخصائي" في التعامل مع الأرواح, و العليم بكل أسرارها..

((الشامان هم سحرة دينيون يقولون بأن لديهم قوة و يستطيعون إنجاز الأمور عن طريق الجلسات تحضير الأرواح التي فيها تغادر أرواحهم أجسامهم إلى عوالم الروح أو تحت الأرض حتى تستمر بمعالجة المهمات. الغرض الرئيسي للشامان في أي مكان هو المعالجة. يسيطر الشامان الناجح على الأرواح التي يعمل معها، ويستطيع (كما يدعي) التواصل مع الموتى.))

أو كما قالها أحد الكتاب بشكل لا يخلو من سخرية :

(تذكر أن ساحر القبيلة لم يكن يجيد الصيد ولا القنص ولا الزراعة ولا القتال ولا يستطيع عمل وعاء من الخزف ولا يستطيع الإمساك بثور أو العناية بالماشية .. هكذا يقرر أن يصير سيد الصيادين والمحاربين والمربين والخزافين .. إنه علي إتصال بالآلهة ويعرف كل الأسرار)

علما بأن ذلك التعامل بالطقوس جاء معظمه عن طريق النظر في رغبات البشر العادية, و من ثم القياس عليها بشكل ما لمعرفة عن طريق ما قد ترغب فيه الآلهة..

على سبيل المثال نعلم أن البشر يأكلون, و بالتالي لابد أن الأرواح كذلك! – من هنا ظهرت فكرة القرابين التي تقدم للآلهة في قبورهم لاسترضائهم..

كذلك البشر يتأثرون بالكلمات و الألفاظ سواء المسموعة أو المكتوبة – من هنا ظهرت فكرة التعاويذ و الأدعية و هي تأثير في الآلهة عن طريق الكلمات.. و هكذا كل ما يرضي الإنسان يمكن أن يرضي الآلهة..

و هنا أيضا ظهرت طقوس و ممارسات شامانية تهدف إلى زيادة القوة الروحانية للساحر عن طريق الإقتراب من الأرواح- هكذا ظهر الصوم مثلا , بالإمتناع عن الأكل أو الجنس أو الكلام, و هي الأنشطة التي يمارسها البشر الأحياء , وبالتالي إمتناع الساحر عنها يقربه أكثر و أكثر من حالة الموت – و من ثم يكون أكثر اتصالا مع الأرواح و أقدر على مخاطبتها و السماع منها..
------------------------
9-  و مع تبلور الجانب القومي للمسألة, بدءا من الآلهة\الطواطم التي كما قلنا تمثل الشعارات القومية للشعب, الذين يؤمنون أنهم "أبناء الآلهة" (كون تلك الرموز المقدس هي في الأصل أجدادهم الرمزيين المتوفين) , و يؤمنون أن أرضهم هي "أرض مقدسة" (كون الآلهة عاشت و مشت عليها يوما ما في الماضي) , و يقيمون الشعارات و الطقوس متبلورة كلها حول معبد مقدس (هو مجرد مقبرة حقيقية أو رمزية للجد), هكذا اكتملت العناصر الأساسية للدين..

فإن كان الطوطم \ الجد المقدس\ الحيوان الرمز هو الصورة الأولى للإله, فمقبرته هي الصورة الأولى للمعبد, أما الساحر فهو الصورة الأولى للكاهن و رجل الدين..
------------------------
10- هكذا نلاحظ أن كل عنصر من العناصر المكونة للأديان هو عنصر طبيعي و مفهوم تماما في إطار النوازع الإنسانية النفسية الغريزية .. ليس لدينا هنا غموض و لا وحي و لا تأثيرات خارقة, بل كل ما لدينا هو مخاوف و آمال و أحلام و قياسات خاطئة و نزعات قومية..

و بالتالي- و بناءا على هذا - نلاحظ أيضا أن ما يسمى بـ"الدين البدائي" هذا هو دين عالمي إن جاز التعبير, حيث نجد نفس العناصر تلك بأشكال متشابهة جدا عن كل المجتمعات القديمة البدائية على اختلاف أماكنها من أستراليا إلى اليابان إلى أفريقيا إلى الهنود الحمر في أمريكا الشمالية..إلخ

------------------------
11-  لاحقا سيتطور المجتمع و يتعقد و يتشعب, تتطور معه تلك الأفكار و تتعقد تدريجيا و تتشعب في اتجاهات عدة حسب درجة التطور و ظروفه : أولا ستتحالف القبائل و المدن مكونة دولا بدائية ذات آلهة تعددية, و هنا ستظهر الوثنية المعروفة بآلهتها التي تعد بالمئات أو الآلاف, ذكورا و إناثا و أطفالا و حيوانات و أنصاف حيوانات, و هي في الحقيقة آلهة الشعوب المختلفة التي اتحدت معا..

و لأن الدين و السياسة لم يكونا ينفصلان, فهنا سيتم إعادة بلورة الأساطير المحلية, بحيث يتم وضع آلهة المدينة الحاكمة (العاصمة) في مرتبة أعلى من آلهة المدن الأخرى, و ذلك لضمان وضع المدينة ذاتها, و معبدها, و كهنتها, في مرتبة أعلى من سائر المدن و المعابد و الكهنة الآخرين , مع اعتبار الملك الحاكم للدولة من سلالة تلك الآلهة مباشرة..

بعد ذلك – و مع مزيد من التطور- ستظهر الإمبراطوريات المركزية التوسعية في الشرق الأوسط - في مصر و العراق و فارس, و سيبدأ بالتالي المزيد و المزيد من تهميش آلهة المدن المحكومة لصالح الإله الأكبر للمدينة الأم, و سيبلغ ذلك التهميش درجة متطرفة في بعض الأحيان إلى أن يتم إلغاء ألوهية الآلهة تماما لصالح ذلك الإله, مع خفض مرتبتهم إلى مساعدين أو ملائكة, أو إلى شياطين متمردة لو لزم الأمر.. و من ثم ستتبلور فكرة التوحيد الديني في مصر و العراق و فارس, و لاحقا بدرجات أكثر حدة في مملكة يهوذا القدس, و إمبراطورية روما , و الخلافة العربية..

هكذا نجد أن التوحيد الديني هو نزوع سياسي "متطرف" مرتبط بالمشاريع الدكتاتورية المركزية الإمبراطورية التوسعية: دينيا إله واحد مطلق القدرة, يعني سياسيا حاكم واحد شرعي, و جماعة كهنوتية واحدة تمارس طقوسها في معبد واحد, يقبع في مدينة مقدسة واحدة.. لا آلهة أخرى يعني لا حكام أو كهنة أو معابد أو مدن أخرى تنافس على السلطة و النفوذ و الإدارة و الأموال..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق