الأربعاء، 21 مايو 2014

الأخلاق بين الدين و الإلحاد (1)





(نشر في مجلة الملحدين العرب العدد السابع عشر أبريل 2014)


مقدمة

إنّ الصّدق، النّزاهة، الاستقامة، الرّحمة، السّماحة، التّعاون، العدالة، الكرم، الإيثار، حبّ الخير، مساعدة المحتاج، والعناية بالضّعيف هي بضعةُ أمثلةٍ لقيمٍ وسلوكياتٍ سنتفق عمومًا أنّها تندرج تحت مفهوم الأخلاقيّات.. وعلى الجانب الآخر فإن الكذب، الغش، القسوة، التّعصب، الأنانية، الظلم، والبخل, هي قيمٌ وسلوكياتٌ سنتفق – عمومًا أيضًا - أنها مضادةٌ لما نسمّيهِ أخلاقً.

ولكن يا ترى، هل توجد أخلاقٌ بلا دين؟ وهل للشّخص اللادينيّ أو الملحد أخلاق؟

وإذًا ما هي المرجعيّةُ الأخلاقيّة للملحد أو اللاديني؟ ما هو المصدر الذي يستمد منه الإنسان الماديّ الذي لا يؤمن بالغيبيات قيمه ومبادئه؟ وهل الأخلاق في نظر الملحد نسبيةٌ أم مطلَقةٌ؟ وإذا لم يكن يؤمن بالحساب الآخروي، فما الذي يمنعه من ارتكاب الجرائم والشُّرور بأنواعها؟

على هذا المنوال، يتساءل المؤمنون بالأديان الذين يرون أن الأديان هي المصدر الوحيد الحقيقي لأخلاقٍ واضحةٍ ثابتةٍ محددةِ المعالم ولها مرجعيّةٌ ثابتةٌ مقدسة..هذا المقال هو محاولةٌ للرّد على مثل تلك التّساؤلات، ومحاولةٌ لتوضيح معنى الأخلاق من وجهة نظر فردٍ لادينيٍّ ملحد.

بدايةً، تجدر الإشارة أولاً إلى حقيقةٍ بديهيةٍ واضحةٍ لمن يلاحظ، وهي أنّه لا يمكن القول بأنّ الإنسان بشكلٍ عامٍ – أي شخصيته وطباعه وسلوكه – مجرّد نتاج فلسفته أو أيديولوجيته أو معتقده الدّيني فقط، بل لعلّ الإنسان بدرجةٍ أكبر نتاج تركيبته الشخصية بالإضافة إلى ظروفه الخاصة وطبيعة المجتمع الذي نشأ وتربّى ويعيش فيه.. بمعنى آخر، ليس وجود الدّين أو عدمه هو العامل الأوحد في تشكيل الفرد، بل إن السّلوكيات الأخلاقيّة للإنسان تنبع أولاً من جيناته وطريقة تربيته وظروفه الشخصية، الاجتماعية، التّعليمية، الثقافية والاقتصاديّة، قبل أن تنبع من معتقده الدّيني، سواء كان ذلك سلبًا أم إيجابًا، ودليل ذلك أنّنا نرى حولنا أشخاصًا على خلقٍ ممتازٍ من جميع أنواع المذاهب الفكرية والدّينية، ونرى كذلك مجرمين لاأخلاقيّين من جميع أنواع المذاهب الفكرية والدّينية، لهذا يجب التّأكيد بأنّه لا يوجد معتقدٌ معينٌ لو اعتنقته فسيحوّلك إلى ملاك، ولو تركته ستتحول إلى شيطان أو العكس، فالدّين هو مجرّد عامل - ضمن عوامل أخرى - تساهم في رسم شخصية الإنسان.

وكون نقاشنا هنا مقتصرٌ على ذلك العامل الواحد، فهذا يخلق نوعًا من الفجوة التي يجدر الإنتباه إليها بين الجانب التّنظيري للمسألة من ناحيّة (أي مقارنة المفهوم الدّيني للأخلاق مع المفهوم اللاديني لها، وبين الجانب العلمي والتّطبيقي للمسألة من ناحيّةٍ أخرى (مقارنة أخلاق المؤمنين بأخلاق اللادينيين)- فالجانب الأول هو مجرّد جزءٍ من الجانب الثاني وليس كله، مع الاعتراف بأهمية ذلك الجزء وتأثيره بدرجاتٍ متفاوتةٍ ومحدودةٍ إلى جوار عوامل أخرى كما أسلفنا.

سنقسمُ الموضوع إلى جزئين: في الأول، سنتحدث عن الأخلاق من وجهة نظرٍ دينيةٍ، وسنسرد تحليلاً لما يسمى بالأخلاق الدّينية، ثم سننتقل في الثاني إلى مناقشة رؤيةٍ للأخلاق من وجهة نظرٍ لادينية، وفي النّهاية سنطرح خاتمةً لنُجري فيها مقارنةً تطبيقيةً بين هذه وتلك في اتباعهما على أرض الواقع.


الجزء الأول

لنبدأ بالأخلاق الدّينية، ولنسأل بدايةً :

هل الأخلاق الدّينية مطلقةٌ بالفعل كما تدّعي؟

"هل الخير خيرٌ لأنّ الآلهة تحبه؟ أم أنّ الآلهة تحبه لأنه خير؟"


-  معضلة يوثيفرو، في الحوار بين سقراط ويوثيفرو، كما نقل أفلاطون:  إن كانت الأولى، "الله هو مصدر الخير"، فسيستتبع ذلك أنّ الله نفسه ليس لديه معنى للخير أو الشر، وأنه لا يمكن الحكم على الله بأنه خير، ولو كانت الثانية، "الخير خير بذاته"، فهذا يعني أن الخير يمثل منطقًا علويًا منفصلاً عن الله، بل إنّ الله نفسه يتبعه ويخضع له!

إنّ أول سؤالٍ يتبادرُ إلى الذهن عند الحديث عن الأخلاق الدّينية هو: "تُرى أيّ دين هو المقصود؟" فهل أخلاق الإسلام هي نفسها أخلاق المسيحيّة وأخلاق اليهوديّة وأخلاق الهندوسيّة وأخلاق البوذيّة وأخلاق الزرادشتيّة وأخلاق البهائيّة... إلخ؟

إنّ الجواب سيكون حتما بالنّفي، بل من الواضحِ أنّنا نتحدث عن "أخلاقات"  لكلٍ منها مرجعيّته المختلفة تمامًا، فليست مرجعيّة المسلم الأخلاقيّة هي مرجعيّة المسيحيّ ذاتها بل قد تناقضها؛ على سبيل المثال، فإنّ شرب الخمر سيعتبر شيئًا لا أخلاقيًُا بالنّسبة للمسلم لكنه ليس كذلك عند المسيحيّ، بينما نجدُ أنّ الطّلاق يعتبر أمرًا مرفوضًا أخلاقيًّا عند المسيحيّ لكنه ليس كذلك عند المسلم، وهكذا دواليك؛ ذلك لأنّ لكل صاحب دينٍ كتابٌ مختلفٌ ومراجعٌ تفسيريةٌ مختلفةٌ يعود إليها،

 فعن أيّ "مُطلَقٍ" نتحدث إذًا؟!

بل حتى حينما ننظر داخل الدّين الواحد، فإننا نجد أن المراجع الأخلاقيّة تختلف باختلاف المذهب والطّائفة والمرجع الفقهي، فهل تتطابق أخلاق المسلم السّني مثلاً مع أخلاق المسلم الشيعي؟ الجواب بالنّفي مرةً أخرى؛ فعلى سبيل المثال زواج المتعة قد يكون لاأخلاقيًّا في عين المسلم السّنيّ، لكنه مقبولٌ تمامًا من وجهة نظر المسلم الشّيعيّ، وينطبق نفس الشيء على تطبيق التّقية، وضرب وجرح الجسد في المناسبات... إلخ، فما يقبله هذا لا يقبله ذاك، وذلك لاختلاف المرجع التّفسيري الذي يعود إليه كلا الفريقين.

وتستمر الظّاهرة حتى بين أصحاب المذهب الدّيني الواحد، حيث سنجد تباينًا في المراجع الأخلاقيّة بتباين التّفاسير والرّؤى والتّأويلات والقياسات والمراجع، وهكذا فالأخلاق عند المسلم السّني السّلفي مثلاً ليست كما عند المسلم السّني المتصوف، والأخلاق عند الحنبليّ تختلف بعض الشيء عن الأخلاق عند الشافعيّ، وهكذا فالأمثلة على ذلك لا حصر لها.

هذا يقودنا بسهولةٍ إلى استنتاجِ أنّ أخلاقَ المؤمنين في مجموعها نسبيةٌ لا مطلقة، وأنّه لا يوجد اتّفاق بالجُملةِ على "أخلاقٍ دينيةٍ" موحّدةٍ كما قد توحي لنا الأدبيات الدينية أحيانا.

والسّر في ذلك التّشتت والاختلاف بين المؤمنين هو ظاهرة ملفتة متعلقة بلب الأخلاق الدينية ذاتها، وهي أن المعايير الأخلاقيّة لدى المؤمن النّموذجي الملتزم هي في النّهاية معاييرٌ نابعةٌ من نصٍ مقدسٍ مكتوبٍ يخضع له ويلتزم به ويتماشى معه ويتغير تبعًا لتغيره وتغير تأويلاته التّي غدت بأيدي كهنة المذهب، وليست نابعةً من عقل المؤمن أو ضميره بالدّرجة الأولى.


مما يدعونا إلى التساؤل التالي:

"هل الأخلاق النّاتجة عن الطّاعة والالتّزام بالأوامر، هي أخلاقٌ حقًا؟

"أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به..." (إنجيل يوحنا – 15 : 14)


"وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم.. فقال له يا إبراهيم.. فقال هأنذا.. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب الى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي اقول لك.. فبكر ابراهيم صباحًا..." (سفر التّكوين: 22)

"فَلَما بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قاَلَ ياَ بنَُيَّ إِني أرََىٰ المَْنَامِ أنّي أذَْبحَُكَ فَانظرُْ مَاذَا ترََىٰ ، قاَلَ ياَ أبَتَِ افْعَلْ مَا تؤُْمَرُ ..." (سورة الصّافات: 70 )

"قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْالنّي عَن شيء ..." (سورة الكهف: 70 )



بالتّعريف البديهي، الأخلاق من شروطها أنْ تكون أفكارًا وسلوكياتٍ نابعةً من النّفسِ الإنسانيةِ المستقلةِ والضّمير الحرّ، لا من أوامرَ عُليا تُتلى من جهةٍ حاكمة؛ على سبيل المثال، الجندي الذي يطيع أوامرَ قادته بكل التّزام  (أيًا كانت طبيعة تلك الأوامر وبغض النّظر عن رأيه الشخصيّ فيها) لا يمكن له بسهولةٍ أن يقول أنّ فعلهُ هذا ينبع من الأخلاق، وإنما هو يقوم على الطّاعة والالتّزام الأعمى بشكلٍ لا يختلف كثيرًا عن الماكينة الصّماء أو الرّوبوت الخاضع.

وهذا لا يجعل أخلاقَ المؤمن أخلاقًا حقيقيةً بالمعنى النّقي للأخلاق، لأنها تقوم بالأساس على طاعة جهةٍ آمرةٍ ناهية؛ فالمؤمن عبدٌ لربه، والعبوديّة لا تصنع أخلاقًا، وطاعةُ العبدِ لتعليمات سيّده هي كطاعة الجندي لقائده، فلا يمكن تصنيفها على أنها أفعالٌ أخلاقيّةٌ بأي حال.

لتلك الطّاعةِ العمياءِ مبررٌ وجيهٌ جدًا في نظر العبد المؤمن، وهو خوفه من عقاب سيده من ناحيةٍ، وطمعهُ في مكافأته من ناحيةٍ أخرى - وهذا ينقلنا إلى السؤال التّالي:


هل الفعل يعتبر أخلاقيًّا حين ينطلق من الخشية من عقاب أو الطمع في مكافأة؟

"يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع الخطاة والآثمين.. ويطرحونهم في آتون النّار.. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.. حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت ابيهم." (إنجيل متى، 13 – 41:43 )
"وَكَانُوا يَعْبُدُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا." (سورة الأنبياء: 90 ) "

وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ." (سورة الأعراف: 56 )

إنّ الإنسان حين يمتنع عن السّرقة بدافعٍ من ضميرهِ، فهذا باتفاقِ الكلّ عملٌ أخلاقيّ، ولكن ماذا عن الإنسان الذي يمتنع عن السّرقة لعلمه أن شُرطيًا يراقبه - هل يمكن القول أن هذا الفعل منبعه أخلاقيّ؟!

حتما لا، بل هو الخوف، وكذلك الحال مع الموظّف الذي يجتهد في عمله طمعًا في الحوافز النّقديّة، فهذا فعلٌ براغماتيٌّ جدًا (نفعي) ومُتفقٌ مع المصلحة ولا علاقة له بالمفهوم المشترك للأخلاق في شكلها النّقي السّامي "الرّوحاني" الذي يدعي المؤمن أنه يملكه.

إنّ المؤمن النّموذجي يلتزم بالأخلاق خوفًا من عذابٍ إلهيٍّ في نارٍ جحيمية وكبريتٍ وظلمةٍ وسلاسل ودودٍ لا يموت... إلخ، وطمعًا في مكافأةٍ إلهيةٍ من جنّاتٍ وخمرٍ وفاكهةٍ ونساءٍ أو من بهاءٍ ومصاحبةٍ لله في ملكوته؛ ترى هل تعتبر هذه أخلاقًا مُتجردةً إذن وساميةً على المصالحِ الماديّةِ كما يزعم المؤمنون، أم هي في النّهاية مجردُ تجارةٍ (كما يسمّيها القرآن) مبنيةٍ على حسابات الرّبح والخسارة؟

لعلنا نجد ذلك النّوع من "الأخلاق" المبنية على الخوف والطّمع عند اللص الذي يمتنع عن السّرقة خوفًا من السّجن فقط، وعند رجل الأعمال الذي يجتهد في عمله طمعًا في مزيد من الثروات فقط؛ بل إننا نجدها بسهولةٍ عند الحيوان، فهناك الكلب الذي يمتنع عن الاقتراب من طعام سيده خوفًا من عصاه، ومن الواضح أن تلك الأفعال كلها لا يمكن وصفها بالأخلاقيّة - بالمفهوم الواسع للأخلاق - بل هي غرائز أنانيةٌ محضة.


إنّ النّتيجة هي أنّ الخوف من عقاب الله والطّمع في مكافأته يجعلان المؤمن إنسانًا تجاريًا في سلوكه متبعًا لمصلحته الماديّة، وهي ذاتها التّهمة القبيحة جدًا التّي يتهم بها المؤمن "الرّوحاني" جميعَ اللادينيين والعلمانيين والماديين.

ختامًا لهذا الجزء وتلخيصًا لما سبق نقول:

- الأخلاق الدّينية ليست أخلاقاً مطلقةً، لأنّ المراجع الدّينية والمذهبية والطّائفية والفقهية تُعدُّ بعشرات الآلاف، وهي مراجع مختلفةٌ ومتناقضةٌ ومتضاربةٌ وأحيانًا متحاربةٌ.

- كما أنّ الأخلاق الدّينية ليست أخلاقًا حرةً، لأنها تقوم على الطّاعة العمياء والخضوع الكامل لأوامر خارجيةٍ من سيدٍ حاكمٍ، حتى ولو كانت تلك الأوامر أن تذبح ابنك بيدك.

- والأخلاق الدّينية ليست أخلاقًا ساميةً مجردةً، لأنها مدفوعةٌ بحافزٍ ماديٍّ وبراغماتيٍّ جدًا، وهو الحصول على مكافأة ذلك السّيد وتجنّب عقابه.


وهذا كله متناقضٌ تمامًا مع المفهوم المزعوم للأخلاق الحقيقية، والتّي تقوم على الاختيار الفرديّ الحرّ وتتنزّه عن الأغراض.

وتتّضح لنا خصائص الأخلاق الدّينية تلك – كخاصيّة النّسبية وخاصيّة الطّاعة العمياء - حين نرى المؤمن المتحمّس لدينه يدور في تبريراتهِ الأخلاقيّةِ مع ذلك الدّين أينما دار، ويُبدي استعدادًا لقبول أيّ قولٍ وأيّ فعلٍِ يصدر عن هذا الدّين (قتل، إبادة، اغتيالات، سرقة، سلب، نهب، تعذيب، اغتصاب، عبوديّة... إلخ) بل ويجتهد قدرَ إمكانه في محاولة تبرير ذلك القول وذلك الفعل أيًا كان، ولا يجد غضاضةً في إخضاع المبادئ والقيم الأخلاقيّة وتحويرها خصيصًا لهذا الغرض؛ فالمرجعيّة عند المؤمن ليست المبدأ ذاته، بل الطّاعة للنص، وللسيد المفترض أنه قائل هذا النّص.

هكذا نجد أن تلك النّوعية من الأخلاق الدّينية - وعلى عكس الشائع من القول - ليست أخلاقًا ثابتةً تقوم على مبادئ محددةٍ واضحةِ الأساس، بل هي أخلاقٌ مرنةٌ فضفاضةٌ مطاطةٌ هلاميةٌ تتمدد مع النّص في كلِ اتجاهٍ وإلى أقصى الحدود، فالمؤمن النّموذجي كما قلنا هو عبدٌ نموذجيٌّ، وبالتّالي فهو مستعدٌّ لقبولِ أيّ شيءٍ طالما يوجد به نصٌ في كتابه المقدس المُملى عليه من سيده-  فهو متّبع لتعليماتٌ صارمةٌ لدكتاتور، أكثر منها أخلاق.

ويتضح الأمر أكثر حين تكون طاعة السّيد متناقضةً مع أبسط بديهيّاتِ الأخلاق التّي لا خلاف عليها، حيث نرى المؤمن (العبد) يُغلّب الطّاعة فورًا؛ فمثلاً هل هناك أدنى شكٍ في أن قتل الأطفال الأبرياء هو عملٌ إجراميٌ شريرٌ؟ حتما لا، لكن المؤمن (سواءً اليهودي أو المسيحي أو المسلم) مُطالبٌ بالإعجاب كثيرًا بالنّبي إبراهيم الذي امتثل لأمر الله بقتل – ليس أي طفل، و إنما ابنه نفسه(!) والحجّةُ هنا أن لله "حكمةً عُليا خفيةً" مِنْ كل أوامره وأفعاله، بينما عقولنا وعلومنا نحن "محدودة" (و هي حجة تشبه حُجج الحُكّام الطّغاة كثيرًا حين يريدون السّيطرة على شعوبهم)- والخلاصة أن النّتيجة العملية للإيمان هي أنّ المؤمن يتحوّل إلى روبوت مطيع خاضعٍ، فالأولوية الحقيقية عنده ليست الأخلاق كفعلٍ حرٍ مبدئيٍ نابعٍ من داخله، وإنما الأولوية لطاعةِ جبارٍ سماويٍ في كلٌ ما يريدهُ ولو خالف فهمنا ومبادئنا.

ولكي تكتمل لدينا الصّورة العامة لموقف الدّين من الأخلاق، علينا أن نتذكّر الأساس الأكبر الذي يقوم عليه الدّين، وهو الإيمان؛ فمع العلِم بأن الإيمان بحدّ ذاته لا يتضمن أيّة أخلاقٍ ولا علاقة له بها- فما هو الأخلاقيّ في الإيمان بكائناتٍ لا نراها كالآلهة والأرواح والملائكة والشّياطين والجنّ والعفاريت؟! وما هو الأخلاقيّ في أنْ أسلّم بالمعجزات، فأصدّق أن فلانًا شقّ البحر أو علانًا قام من الموتِ أو ترتانًا كلّمهُ ملاكٌ مُجنّح في كهفٍ في الصّحراء قبل أن أوُلد بقرون؟ بل ما هو الأخلاقيّ في الإيمانِ بأنّ خالقَ الكون هو (أ) وليس (ب)، أو أنّ النّبي الحقيقي هو (س) وليس (ص)؟

لكنّ المسألة لا تقف عند انعدام العلاقة بين الإيمان والأخلاق، بل نزعم أن العلاقة بينهما أحيانًا ما تكون متضاربةً، وذلك لأن الدّين (و نخصّ هنا الأديان الإبراهيمية، وعلى الأخص الكبيرتين منهما: المسيحيّة والإسلام) يرهن الثواب والعقاب في الآخرة بذلك الإيمان: "المصدق بديننا مصيره الجنة، ومهما ارتكب من جرائم وآثام فذنوبه مغفورة"، "والمكذّب بديننا مصيره جهنم مهما صنع من خير وأفاد البشرية فأعماله ضائعة"، وهو يؤكد ما أشرنا إليه من أنّ الطّاعة للسيد (الله، النّبي، الكتاب المقدس، الإمام، الشيخ، أو حتى أمير الجماعة... إلخ) مُقدّمة على كل فضيلةٍ أخلاقيّة (أما في حالة اليهودية فالمسألة أكثر ظلما وأبعد عن الأخلاق، حيث النجاة الأخروية مرهونة بأن تنتمي بالولادة إلى عرق معين دون سواه من البشر!).

الكارثة هنا أن هذا المعتقد الدّيني العميق بحصر الرّضا الإلهي على "مذهبي فقط دون المذاهب الأخرى" يؤدّي إلى تقسيم البشرية كلها إلى جماعتين: جماعة الرّب وجماعة الشيطان، أو بلغةٍ أخرى أهل الحق وأهل الباطل، والمهتدون والضّالون، والمؤمنون والكفار، وهذا التّقسيم بحد ذاته يفتح الباب لجميع أنواع الشرور والجرائم تجاه تلك الجماعة الملعونة في نظر الرّب (وهم كل البشرية ما عدانا!)، وكل من له متابعة بسيطة بتاريخ وحاضر الجماعات الدّينية المختلفة يدرك إلى أيّ مدى يمكن لتلك الجماعات أن تنحدر أخلاقيًّا بلا حدود في ممارستها ضد "الأغيار\الكفار\الهراطقة"، ممّن هم خارج الإيمان وخارج الجماعة، تحت شعارات الدّين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ويخدمون قضيةً مقدسة.


فهل هذا يعني أن جميع المؤمنين يحملون هذه النظرة وهذه الأخلاق؟ بالقطع لا، فما أكثر المؤمنين أصحاب الرّؤى الأكثر رقيًا، والأخلاق الأكثر إنسانيةً.. لكن لو تذكّرنا ما قلناه في المقدمة من أن الدّين هو مجرّد عاملٍ مؤثرٍ على المؤمن ضمن العوامل الأخرى المتباينة كالتّعليم والثقافة والتربية والسّمات الشخصية...إلخ، لفهمنا أن الرّقيّ الأخلاقيّ لكثير من المؤمنين لا يأتي بالضّرورة وبشكلٍ مباشر من الدّين بل ربما من خارجه (حتى ولو ربط المؤمن تلك الأخلاق بنصوصٍ دينيةٍ منتقاة، فهذا لا يعني بالضّرورة أن منبعها الحقيقي هو تلك النّصوص)، فما نزعمه هنا أنه كلما زاد تأثير العامل الدّيني في الفرد وتضاءل تأثير العوامل الأخرى المذكورة  (ما أسميناه المؤمن النّموذجي) كلما كانت نظرة ذلك الفرد وسلوكياته للأخلاق أقرب لما وصفناه بأخلاق العبيد، وهي أخلاقٌ مبتورةٌ ناقصة كما أوضحنا.

الجزء الثاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق