أكثر من تحاورت معهم من الأحباء المسيحيين يصرون على ترديد تلك العبارة بحماس في كل مناسبة، أو حتى بدون مناسبة : أن المسيحية لا تعتبر دينا و إنما هي علاقة شخصية مع الله.
هنا نتفحص مدى دقة تلك العبارة، فنسأل ما هو الدين و هل ينطبق تعريفه على
المسيحية، و هل تم ذكر كلمة "دين" في الكتاب المقدس، و هل قال يسوع أنه
جاء بدين جديد، و ما سبب تركيز المسيحيين و إصرارهم أن ما يعتنقونه ليس دينا.
---------------------------------------------
1- ما هو الدين؟
بعيدا عن الأصل اللغوي لكلمة "دين" (الذي يعني باللاتينية
"الصلة" و "الرابط" و "الإلتزام") فللدين اصطلاحا
عدة تعريفات و توصيفات أكاديمية متنوعة موجودة ، سنمر ببعضها - لنرى إن كانت تشمل المسيحية أم لا.
الدين religion هو:
- الإيمان بإله أو بمجموعة آلهة.
- نظام من المعتقدات و الطقوس و
الشعائر و القواعد المخصصة لعبادة إله أو مجموعة آلهة.
- اهتمام أو إيمان أو نشاط مهم لفرد أو جماعة.
- خدمة أو عبادة إله أو قوى خارقة للطبيعة.
- حالة فردية أو نظام مؤسسي يتضمن سلوكيات و معتقدات و ممارسات دينية.
- قضية أو مبدأ أو نظام عقائدي يتم التمسك به بعاطفة و إيمان.
----------
- الدين هو الإيمان بقوة خارقة مهيمنة و عبادتها ، خاصة إله شخصي أو آلهة.
- نظام معين من الإيمان و العبادة.
- سعي أو اهتمام يتم اتّباعه بتكريس كبير.
----------
الدين هو علاقة البشر بما يعتبر مقدسا، مطلقا، روحانيا، أو جديرا بتوقير
خاص.
----------
نجد أن الدين هو مجموعة من المعتقدات، الأطر الثقافية، و وجهات النظر
العالمية، و التي تربط الإنسانية بنظام وجودي ؛ و تحتوي العديد من الأديان على قصص
و رموز و تاريخ مقدس يهدف لشرح معنى الحياة و أصل الكون ؛ و من تلك المعتقدات حول
الوجود و الطبيعة الإنسانية يستمد البشر أخلاقياتهم و شرائعهم الدينية ؛ كما نجد
أن كثيرا من الأديان تتضمن سلوكيات منظمة، كهنوت، تعريف يحدد الأفراد المنضمين
لها، أماكن مقدسة، نصوص مقدسة ؛ و ممارسة الدين قد يتضمن طقوسا و شعائر تقديس
(لإله أو مجموعة آلهة) و قرابين و أعياد و ولائم و مراسم و تأملات و صلوات و
موسيقى و فنون و رقص و خدمة اجتماعية بالإضافة إلى سائر عناصر الثقافة الإنسانية.
ثم تسرد ويكيبيديا عدة تعريفات لأكاديميين و فلاسفة، يحاولون تصنيف الدين
بعدة أشكال لا تبتعد عما ذكرناه.
----------
فهل تلك التعريفات السابقة للدين تنطبق على المسيحية؟
الجواب القطعي بنعم؛ فالمسيحية تتضمن كل عنصر تقريبا من عناصر الأديان،
بداية من الإيمان بإله و عقيدة و اتباع لنصوص كتابية مقدسة، مرورا باحتوائها على
معابد و أماكن مقدسة و كهنوت منظم ، وصولا إلى ممارستها لطقوس و شعائر و مراسم و
أعياد..إلخ، فهي ليست دينا فقط و إنما دين نموذجي يوافق كل تعريف ممكن للدين.
و كون المسيحية تحتوي على علاقة شخصية مع الله فهذا لا يغير من الأمر شيئا،
إذ أن جميع الأديان تقريبا تتضمن علاقة شخصية مع الله- هذا لا ينفي كونها دينا بل
يؤكده، ثم أن المسيحية تحتوي على عناصر
دينية أخرى جوار ذلك كما ذكرنا.
و لهذا ليس من الغريب أن أي مصدر أكاديمي أو علماني حين يقوم بتعريف الدين
فإنه يذكر المسيحية كمثال ضمن تلك الأديان ، و حين يقوم بتعريف المسيحية فأول صفة
يذكرها عنها أنها دين - هذا ينطبق على ويكيبيديا أو غيرها، فعلى ما يبدو أن
الوحيدين الذين لا يرون المسيحين دينا هم المسيحيون التقليديون حسبما تم تلقينهم.
---------------------------------------------
2- هل يوجد أي نص من الكتاب المقدس، على لسان يسوع أو غيره، ينفي بوضوح أن
المسيحية دين؟
لا ؛ إخراج المسيحية من دائرة
الأديان هي مجرد فكرة أخرى اخترعها المسيحيون دون أن يكون لها أصل في كتابهم.
---------------------------------------------
3- لكن الكتاب المقدس- يقولون - لا يحتوي على كلمة "دين".
خطأ.
في العهد الجديد نقرأ من رسالة يعقوب، الأصحاح الأول، 26 و 27 (إِنْ كَانَ
أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ
يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ. اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ
النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى
وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ
الْعَالَمِ).
هنا نجد الكلام عن الديانة الباطلة و الديانة الحقة؛ و الكلمة اليونانية
المستخدمة في النص "ثريسكيا" تعني ديانة أو دين religion ، و هكذا تضعها الترجمات المختلفة للكتاب المقدس ؛ وفي موضع آخر استخدمت نفس الكلمة اليونانية
أيضا بمعنى "ممارسة العبادة" (رسالة كولوسي 2:18).
و في مواضع أخرى نجد إطلاق لقب "مسيحيين" على أتباع يسوع، مما
يؤكد أننا نتحدث عن جماعة إيمانية أخرى.
(وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً)
أعمال الرسل 11:26.
(فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: «بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ
مَسِيحِيّاً») أعمال الرسل 26:28.
(فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ
شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ
فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ اللهَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) بطرس الأولى 4:16.
---------------------------------------------
4- و لكن المسيح لم يقل أبدا أنه جاء بدين جديد.
صحيح، فعلا يسوع لم يقل أبدا أنه جاء بدين جديد؛ و ذلك لسبب بسيط جدا : أنه
ولد و عاش و مات يهوديا!
المسيح من أصل يهودي (متى 1:1،17 ، و لوقا 3:23،38) والداه يهوديان متبعان
للشريعة (لوقا 2:39 و لوقا 1:6) و تم ولادته في ظل الشريعة اليهودية (رسالة غلاطية
4:4) و تم ختانه (لوقا 2:21) و تم تقديم ذبيحة للرب (لوقا 2:24)، و كان يذهب إلى
الهيكل منذ طفولته (لوقا 2: 42-46) و حين كبر كان مداوما على حضور المجمعات
اليهودية يوم السبت (لوقا 4:16) و كان يقوم بالتدريس في هيكل أورشليم (لوقا 21:37)
؛ و في مواضع مختلفة نجده محافظا على تتبع جميع الأعياد و الطقوس اليهودية، كما
سنجده مؤمنا بجميع القصص و التعاليم التي وردت في العهد القديم ؛ و في موعظة الجبل
خاطب الناس قائلا أنه لم يأت لينقض الشريعة بل ليكملها (متى5:17) و أكد أن تلك
الشريعة لن تزول أبدا (متى 5:18)، كما قرن الخلاص الأخروي بالإلتزام بتلك الشريعة
و حذر الجميع من مخالفة أي وصية فيها (متى 5:19).
بعد هذا من الطبيعي أن لا يقول المسيح أنه يؤسس دينا جديدا، و على الجانب الآخر فهو لا ينفي أنه يتبع دينا – ذلك لأنه بالفعل بداخل دين قديم هو اليهودية.
و لكن لأن الأديان دائما لا تقوم على أفكار المؤسس وحده ، فقد تطورت
المسيحية كمذهب يهودي تبلور و صار مع الوقت دينا مستقلا عن اليهودية ؛ و حسب الكتاب المقدس فهذا
الإنفصال حدث عبر القرن الأول الذي شهد ولادة الدين الجديد.
---------------------------------------------
5 – و لكن لماذا كثير من المسيحيين حريصون للغاية على تأكيد أن المسيحية
ليست دينا؟
لعل المسألة تتعلق بما يسمى "التوسل بالخصوصية" Special pleading ، و هي مغالطة منطقية تتضمن محاولة إظهار الشيء على أنه "ليس
كالآخرين" بل هو استثناء من القاعدة و بالتالي يستحق معاملة خاصة.
مثال:
- شخص يعترف أن الدكتاتورية أمر
خاطئ و سيء.
- و لكن هذا الشخص يحب هتلر و لا
يريد إدانته.
- بالتالي لا يجد صاحبنا إلا أن يجادل بأن هتلر ليس كأي دكتاتور، بل لديه وضع
خاص مختلف عن أي دكتاتور آخر.
و هذا ما يفعله البعض مع المسيحية، يسعون لمنحها أفضلية خاصة على بقية
الأديان الأخرى بهدف إنقاذها من معايب تلك الأديان و إظهار أن دينهم متميز عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق