الجمعة، 8 أبريل 2016

هل حقا نشأ الإسلام في مكة؟ (2)

كعبة أم كعبات؟

((
كان للعرب كعبات عديدة أخرى تحج إليها في مواسم معينة وغير معينة ، تعتر ( تذبح) عندها ، وتقدم لها النذور والهدايا ، وتطوف بها ، ثم ترحل عنها بعد أن تكون قد قامت بجميع المناسك الدينية المطلوبة ", وقد اشتهر من بيوت الآلهة أو الكعبات ما وجدنا ذكره عند الهمداني ( بيت اللات ، وكعبة نجران ، وكعبة شداد الأيادي ، وكعبة غطفان ) ، وما ذكره الزبيدي ( بيت ذي الخلصة المعروف بالكعبة اليمانية ) ، وما جاء عند ابن الكلبي ( بيت ثقيف ) ، إضافة إلى ما أحصاه جواد علي ( كعبة ذي الشري . و كعبة ذي غابة الملقب بالقدس ) ومحجّات أخرى لآلهة مثل (اللات ، وديان ، وصالح ، ورضا ، ورحيم ، وكعبة مكة , وبيت العزي قرب عرفات ، وبيت مناة ) ، هذا مع ما جاء في قول الأستاذ العقاد عن "البيوت التي تعرف ببيوت الله أو البيوت الحرام ، ويقصدها الحجيج في مواسم معلومة تشترك فيها القبائل, وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة ، وهي بيت الأقيصر ، وبيت ذي الخلصة ، وبيت رضاء ، وبيت نجران ، وبيت مكة .. وكان بيت الأقيصر في مشارف مقصد القبائل ؛ من قضاعة ولخم وجذام وعاملة, يحجون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده))   - من كتاب "في طريق الميثولوجيا عند العرب", للباحث محمود سليم الحوت.



تاريخيا, فكعبة مكة الحالية تم إعادة بناؤها عام 1630, على يد السلطان العثماني مراد الرابع, بعد أن كانت قد تصدّعت, أما البناء الأقدم, فتحكي لنا المصادر الإسلامية أنه قد تهدّم و أعيد بناؤه مرتين متتاليتين في العصر الأموي: مرة في عام 683 م, في أثناء حصار مكة الأول, من قِبَل جيش يزيد ابن معاوية , لحاكم الحجاز آنذاك عبد الله ابن الزبير, المتحصّن بالحرم, حيث شب حريق في الكعبة لأسباب غامضة اختُلف في إلقاء الذنب فيها, على جيش يزيد أو على الزبير نفسه, و بعد فشل الحصار و انسحاب الجيش الأموي- بسبب وفاة الخليفة يزيد في دمشق – هد الزبير ما تبقى من الكعبة, و أعاد بنائها مرة أخرى, "على قواعد إبراهيم" مغيّرا فيها بعض الأمور, حسب ما تخبرنا الروايات.

و بعد تولي عبد الملك ابن مروان للخلافة, أراد التخلص من ابن الزبير, فقام بتوجيه حملة عسكرية أخرى إلى مكة, بقيادة الحجّاج ابن يوسف الثقفي, و الذي وصل هناك وحاصرها ثانية عام 692, مكررا سيناريو القذف بالمنجنيق حتى هدمها مرة أخرى, و بعد انتصار الأمويين و مقتل ابن الزبير, يُقال أن الحجاج قد أعاد بناء الكعبة مرة أخرى "على أسس قريش", معيدا الوضع إلى ما كان قبل تغييرات ابن الزبير.

أما قبل الإسلام , فتحدثنا المصادر الإسلامية عن بناء قريش للكعبة زمن "الجاهلية", في شباب محمد و قُبيل دعوته, حيث كانت تهدمت بسبب حريق عفوي شب بها-  ثم قبل هذا الزمن لا نجد سوى السرد القصصي الغامض, الذي ينسب بناء الكعبة إلى إبراهيم و آدم و الملائكة..إلخ

بشأن تاريخ الجاهلية , فلدينا مصادر قديمة عديدة, غير عربية, تتحدث عن وجود "بيوت مقدسة" دينيا, لدى عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام , و أحيانا يكون الحديث عن بيت واحد مميز, لكن مكانه لا يذكر بدقة - على الجانب الآخر تذكر لنا مصادر التراث الإسلامي أسماء بضع و عشرين كعبة على الأقل, منتشرة بين الأردن و اليمن, تحج إليها مجموعات من العرب, و هو ما تؤكده لنا الآثار, حيث أن بعض من تلك الأبنية المقدسة مازال قائما بالفعل إلى يومنا هذا.

لكن الملاحظ أيضا أن معظم تلك المصادر الإسلامية – و التي كتبت في العصر العباسي - تلح على أن بيت مكة كان يحظى بأهمية و قداسة مميزة, عن سائر البيوت العربية, و هو ما لا أثر له في التاريخ كما قلنا.

حملة أبرهة التي لم تحدث


((
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ -  أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ -  وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ - تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)) – القرآن, سورة الفيل.  (أبابيل: جماعات متتابعة -  سجيل: الطين المتحجر – عصف : ورق الزرع)

((
لذلك هكذا قال الرب عن ملك اشور - لا يدخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهما ولا يتقدم عليها بترس ولا يقيم عليها مترسة-  في الطريق الذي جاء فيه يرجع وإلى هذه المدينة لا يدخل يقول الرب-  و أحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي, ومن أجل داود عبديوكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش اشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفا-  ولما بكروا صباحا إذا هم جميعا جثث ميتة)) – العهد القديم, سفر الملوك الثاني 19: 32-35, متحدثا عن حصار الأشوريين للقدس, و كيف أنقذ الرب المدينة المقدسة.

يُنقل عن ابن إسحاق, أن أبرهة الأشرم, حاكم اليمن التابع للنجاشي ملك الحبشة (أثيوبيا), بنى كنيسة في صنعاء و سماها "القُلَّيس", و أراد أن يجتذب الحجيج العرب إليها منافسا بذلك كعبة مكة, فجاء رجل من العرب فقعد فيها (أي قضى حاجته), مما أثار غضب أبرهة, و قرر أن يهدم الكعبة, فخرج بجيشه مُحضرا الأفيال, مع كبيرهم الذي اسمه "محمود",  فأرسل الله على أبرهة طيرا ترميه بحجارة من مناقيرها, حتى هلك هو و جيشه و أفياله - و يُفترض أن الواقعة حدثت في عام ميلاد محمد على أشهر الأقوال, و هو ما سُمّي بعام الفيل.

بغض النظر عن الملامح الأسطورية الواضحة للقصة, و بغض النظر عن أن السورة القرآنية تخلو من أي تفاصيل تربط هؤلاء القوم الغامضين المسمون "أصحاب الفيل" بالكعبة أو بمكة أو بالحبشة بأي شكل , مما يفتح المجال واسعا لتخمين ما المقصود منها بالتحديد, إلا أننا نسجل عدة نقاط عامة :

1-
الحادثة - كما يُتوقع- غير مذكورة بالمرة في أي مرجع معاصر أو لاحق, يدعم ما ادعاه ابن إسحاق, و الذي ظل الجميع ينقلون عنه حتى صارت القصة من المسلّمات -  مع ملاحظة أن غياب مصادر أخرى يعني أننا نتحدث عن حملة عسكرية كاملة, تم إهلاكها في الصحراء, دون أن نجد أي مصدر تاريخي يتحدث عن الأمر!

2-
قلنا أن مكة ذاتها غير مذكورة في أي تاريخ غير عربي, و تاريخ الحبشة ليس استثناءا : الملك المسيحي أبرهة (الذي حكم بالفعل أجزاءا من اليمن و الحجاز منتصف القرن السادس), لم يُذكر عنه أنه ذهب إلى موضع مكة, و لا يوجد حتى ما يثبت أنه كان على علم بمدينة بذلك الإسم.


و نشير هنا إلى أحد الكتابات المنسوبة لأبرهة, اكتشفها أثاريون فرنسيون عام 1951, و تتحدث عن الحملات العسكرية التي قام بها الرجل في جنوب الحجاز.

النقش معروف بإسم "نقش بئر المريغان",  تحت الرمز RY 506 , و هو آخر نص معروف لأبرهة, حيث يعود إلى العام 552 للميلاد, و نصه مُترجما هو كالتالي:

((
بقوّة الرحمن ومسيحه الملك أبرهة زيبمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وقبائلهم (في) الجبال والسواحل، سطر هذا النقش عندما غزا [قبيلة] معد [في] غزوة الربيع في شهر "ذو الثابة" (أبريل) عندما ثاروا كل [قبائل] بنى عامر، وعيّن الملك [القائد] "أبا جبر" مع [قبيلة] علي [علا؟ علي؟] [والقائد] "بشر بن حصن" مع [قبيلة] سعد [وقبيلة] مراد، وحضروا أمام الجيش ـ ضد بنى عامر [وقد وجّهت] كندة وعلي في وادي "ذو مرخ" ومراد وسعد في واد على طريق تربن وذبحوا وأسروا وغنموا بوفرة وحارب الملك في حلبن واقترب كظل معد (وأخذ) أسرى وبعد ذلك فوّضوا [قبيلة معد] عمرو بن المنذر [في الصلح] فضمنهم ابنه (عروة) (عن أبرهة) [فعيّنه حاكماً على] معد ورجع (أبرهة) من حلبن بقوة الرحمن في شهر ’’ذو علان’’ في السنة الثانية والستين وستمائة [552 ميلادي])) (7)



و من النقوش يتبين لنا أولا أن أبرهة لم يذهب إلى آخر الطريق و إنما توقف في مرحلة  ما, و قام بتوجيه الحملات , و ثانيا أنه لم يصل إلى موضع مكة, بل قد يكون أقرب مكان وصلوا له هو وادي تربن, الذي يقع بعيدا عن مكة نحو 190 كيلومتر, مع ملاحظة أنه لم يصل حتى إلى تربن و إنما إلى مكان "على طريق تربن", و ثالثا يتبيّن لنا أن أبرهة قد عاد منتصرا من حملاته, و لم يهلك -  و بالطبع لا يوجد أي ذكر لأفيال أو طيور تلقي بحجارة من مناقيرها.

3-
أبرهة (على الأرجح في رأي كثير من المؤرخين) مات عام 553 أو نحو ذلك, أي قبل عام الفيل المزعوم بكثير. (8) (9)

4-
القصة مليئة بالصعوبات المنطقية التي تجعلها مستحيلة الحدوث: فالأفيال أولا تحتاج إلى كميات هائلة من الماء و الطعام, كما أنها بطيئة الحركة و لا تتحمل السير في الصحراء لمسافات كبيرة, مما يجعلها اختيارا غير عمليا بالمرة في تلك البيئة و تلك الظروف, و لا يُتوقع أن قائدا عسكريا سيكلف نفسه باستيراد تلك الكائنات الثقيلة و المرهقة من أفريقيا, كي يغزو بها وسط الجزيرة العربية, و فوق هذا فالفيل الأفريقي يختلف عن الآسيوي في أن حجمه أضخم و طبيعته أشرس و أعصى على الترويض , و لذلك لا يستخدم في الحروب أصلا (10) علما بأن الشعب الوحيد الذي كان يستخدم الفيل في الحروب في ذلك الزمن هم الفرس.

5-
يلاحظ محمد النجار في مقالته (قراءة في بعض السيرة النبويّة) وجود روايات أخرى مختلفة للواقعة, غير رواية ابن إسحاق, فيذكر مثلا رواية مقاتل ابن سليمان (صاحب أقدم تفسير للقرآن) الذي يذكر أن بطل القصة ليس أبرهة و إنما ابنه! , كما يحكي أن الجيش انسحب في هذا العام, و عاد في حملة أخرى بعد سنتين, و يشير النجار أيضا إلى أقدم كتاب في الحديث (مصنّف ابن عبد الرزاق) الذي ينقل عن الزُهري أن القصة لم تحدث عام ولادة محمد, و إنما قبل ذلك بعقود , و هو ما تدعمه روايات أخرى في المصادر الإسلامية - هذا الخلط في رأي الكاتب "يشير إلى أنّ القصّة لم تكن أخذت صورتها النهائيّة التي نعرفها اليوم."

إذن, فالخلاصة, كما يبدو لنا أن القصة مختلقة, حيث تحوي جميع ملامح الأساطير القديمة, صيغت بشكل "هوليوودي" مشوق, تم بلورتها في العصر العباسي أو قبل ذلك بقليل, و الهدف الأساسي الواضح منها هو إعلاء شأن مكة على سائر المدن العربية, و رفع مكانة كعبتها على سائر الكعبات العربية, و التأكيد على كونها علامة مقدسة, يتدخل الله شخصيا للدفاع عنها, حتى و هي مليئة بالأصنام!

الهدف من اختراع تاريخ عريق لمكة
فلو تذكرنا مثال أساطير تأسيس روما التي سادت في زمانها, مع محاولات خلق أمجاد ماضية لها عن طريق القصص الروايات, في زمن كانت العظمة فيه تقاس بالعراقة و القدم, و هو ما حدث أيضا مع القسطنطينية و القدس و غيرهم من المدن, فسيمكننا الإستنتاج إذن, من خلال ما استعرضناه, أنه في مرحلة ما, تم اختلاق تاريخ قديم مجيد لمكة, من قِبَل الرواة و مدونو السيرة و التاريخ الإسلامي, مع إحاطتها بالقصص و الروايات ذات الطابع الأسطوري, بهدف منحها المزيد من القداسة و الهيبة الشعبية, على غرار ما تم سابقا مع مدن أخرى.

هكذا علينا أن لا نكتفي بملاحظة أن تاريخ مكة في الحقيقة هو أكثر حداثة و أكثر تواضعا مما يُراد لنا تصديقه , لكن الأهم هو ملاحظة أيضا أن وجود تلك الأساطير نفسها, و كثرتها, يعتبر دليلا على أن الحاجة إلى تعظيم مكة و كعبتها ظلّت موجودة- بل مُلحّة للغاية- في العصر العباسي, أي في عز قوة الإسلام و استقراره!, مما يثير التساؤلات حتما.

لهذا احتمالان: الأول متوقع و مفهوم,هو أن ارتباط مكة بمهد الرسالة الإسلامية و حياة النبي, كان هو الدافع لدى الرواة اللاحقين لتمجيدها و منحها تاريخا عريقا,
أما الإحتمال الثاني- الأكثر راديكالية- هو أن ربط مكة بالإسلام و نبيّه, هو ذاته ليس إلا كذبة أخرى, صيغت كجزء من خطة الرواة لتمجيد المدينة!

كما سنرى, فهناك من الأدلة ما قد يدفع لترجيح الإحتمال الثاني على غرابته : هناك فعلا شواهد عديدة آثارية و تاريخية و منطقية بل و قرآنية توحي من ناحية بأن الإسلام لم يبدأ في مكة, و توحي من ناحية أخرى باستمرار الصراع بين البيوت العربية المقدسة, و التخبط في الإتفاق على القبلة, و التحولات فيها, وصولا إلى منتصف العصر الأموي على الأقل, و توحي من ناحية ثالثة بأن مكة لم تأخذ مكانتها المألوفة لنا إلا في وقت متأخر, و كحلقة في تلك السلسلة من التحولات, ثم بعد ذلك تم نسج الروايات بحيث تدعم ذلك التحول, و تمنح مكة بُعدا تاريخيا مفتعلا.

بالتالي الشك في تاريخ مكة لا ينبغي أن يقتصر على أحداث ما قبل الإسلام, كبناء آدم أو الملائكة أو إبراهيم أو اسماعيل للكعبة, أو مكانة المدينة كمركز ديني و تجري جاهلي, بل ينبغي أن يمتد الشك ليشمل تاريخها الإسلامي  المبكر أيضا, و طبيعة علاقتها مع محمد و المؤمنين الأوائل, كما سنرى.

لغز بكة
((
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ))  القرآن, من سورة  آل عمران, 96,97

((
كون بكة هي مكة, و كون مكة واقعة في الحجاز, هما فرضيتان مأخوذتان كأمور مسلم بها عند ابن إسحاق, و وارثوه.. مع ذلك, تبقى الحقيقة غير المريحة, أنه لا يوجد أدنى دعم لهذه أو تلك بين ثنايا القرآن نفسه))  - من كتاب "تحت ظل السيف", للمؤرخ توم هولاند, ص328, 329

((
و على الرغم مما يبدو من إجماع الجغرافيين العرب على كون مكة هي بمكة, فإن اضطراب الروايات بشأن ذلك ربما يشكل صدى لمحاولات متأخرة من الدمج بين المكانين.  يقول ياقوت بعد أن يؤكد أن مكة هي بكة بإبدال الميم باء : "و قيل بكة بطن مكة, و قيل موضع البيت المسجد و مكة و ما وراؤه, و قيل البيت مكة و ما والاه بكة, و روي عن مغيرة عن إبراهيم قال: مكة موضع البيت و بمكة موضع القرية, و قال يحيى بن أبي أنيسة: بكة موضع البيت و مكة الحرم كله, و قال زيد بن أسلم: بكة الكعبة و المسجد و مكة ذو طوى و هو بطن مكة.. و لعل هذا الإضطراب و تعدد الروايات بشأن الموقع و التسميات قد نتجا بالدرجة الأولى عن كون القرآن نفسه لم يجزم بكون مكة و بكة يدلان على نفس المكان. كما أنه من المفيد ملاحظة أن الرواية الإسلامية تنسب إلى مكة حوالي عشرين اسما آخر))  -  من كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر", سليمان بشير, ص 90

((
لامام المغنين على الجتية.لبني قورح.مزمور.ما احلى مساكنك يا رب الجنود -  تشتاق بل تتوق نفسي الى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالاله الحي-  العصفور ايضا وجد بيتا والسنونة عشّا لنفسها حيث تضع افراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي والهيطوبى للساكنين في بيتك ابدا يسبحونك.سلاه -  طوبى لاناس عزهم بك.طرق بيتك في قلوبهم- عابرين في وادي البكاء (وادي بكّة) يصيرونه ينبوعا. ايضا ببركات يغطون مورة-  يذهبون من قوة الى قوة. يرون قدام الله في صهيون-  يا رب اله الجنود اسمع صلاتي واصغ يا اله يعقوب.سلاه -  يا مجننا انظر يا الله والتفت الى وجه مسيحك -  لان يوما واحدا في ديارك خير من الف. اخترت الوقوف على العتبة في بيت الهي على السكن في خيام الاشرار - لان الرب الله شمس ومجن. الرب يعطي رحمة ومجدا. لا يمنع خيرا عن السالكين بالكمال -  يا رب الجنود طوبى للانسان المتكل عليك)) -  العهد القديم, من سفر المزامير, 84

في حين أن القرآن لا يُفهم منه بالمرة موضع بكة, أو أي شيء محدد بشأنها, لكن المُلفت أننا نجد ذكرا لذلك الإسم في التوراة, مقرونا بطقوس تشبه الحج, في حديث عن بيت الرب, و الإرتحال نحوه بالتسبيح و الصلاة,  علما بأن العبارة في المزامير التي تترجم عادة بـ"وادي البكاء", من الأصح ترجمتها إلى "وادي بكة" كإسم علم, و الذي يٌرجح أنه وادي فعلي في فلسطين قرب القدس (11)

و لو عدنا إلى الآية القرآنية من سورة آل عمران, لنلاحظ أن سياقها – ما سبقها و ما لحقها- إنما يتحدث عن بني إسرائيل تحديدا و حصريا, حينها يزداد الشك.

(
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَآل عمران,93-99

و حين نلاحظ ربط الآية لبكة مع النبي إبراهيم, مقامه و دينه, فسنعود لتذكر ارتباط إبراهيم الأصلي- و معه التراث الإبراهيمي كله- بفلسطين و شمال الجزيرة, لا مكة - و حينها ربما تتضح المسألة أكثر.

أين وُجد إبراهيم, و هاجر, و اسماعيل, و الإسماعيليين؟
 ((
فنقل ابرام خيامه واتى واقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون.بنى هناك مذبحا للرب)) -  العهد القديم, سفر التكوين , 13: 18

((
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار)) - العهد القديم, سفر التكوين , 18: 1

((
وحدث بعد هذه الامور ان الله امتحن ابراهيم.فقال له يا ابراهيم.فقال هانذا. 2 فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب الى ارض المريا واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذي اقول لك.  فبكر ابراهيم صباحا وشد على حماره واخذ اثنين من غلمانه معه واسحق ابنه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب الى الموضع الذي قال له الله.)) - العهد القديم, سفر التكوين , 22: 1,3

((
فبكر ابراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها والولد وصرفها.فمضت وتاهت في برية بئر سبع-  ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار-  ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس.لانها قالت لا انظر موت الولد.فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت. - فسمع الله صوت الغلام.ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر.لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو -  قومي احملي الغلام وشدي يدك به.لاني ساجعله امة عظيمة -  وفتح الله عينيها فابصرت بئر ماء.فذهبت وملات القربة ماء وسقت الغلام -  وكان الله مع الغلام فكبر.وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس -  وسكن في برية فاران.)) -  العهد القديم, سفر التكوين , 21: 14-21



ذكرنا عرضا في البداية, أنه من الناحية التاريخية لا يوجد أي معلومات تفيد شيئا عن حياة إبراهيم و عائلته, أو حتى وجودهم , حتى أن الكثير من المؤرخين يعتبرونهم مجرد شخصيات أسطورية مخترعة, و لكن يجب الإنتباه إلى أنه حتى الأساطير ترتبط بأماكن و أحداث , و تنتشر في بيئات محلية معينة , و يكون لها مراجع معينة تتحدث عنها , و في تلك الحالة التوراة هي المصدر الرئيسي قبل الإسلام لحياة أولئك الآباء.

لو تتبعنا خط سير رحلات النبي إبراهيم, و جميع الأحداث المرتبطة به, كما تخبرنا بها التوراة, فسنجدها تدور بالأساس حول فلسطين و شمال الجزيرة العربية- لا يوجد أي شيء يشير لذهابه جنوبا ناحية مكة, من قريب أو بعيد.

أما الموقع المفترض لرحلة هاجر المطرودة, مع ابنها إسماعيل, فهو حسب التوراة صحراء بئر سبع, جنوب غرب القدس, و ليس مكة (التي تقع على بعد نحو ألف و مائتين كيلومتر جنوبا), و أيضا موضع "جبل المروة" أو الموريا, هو في التوراة المكان الذي امتثل إبراهيم فيه للتضحية بإبنه, بناءا على أوامر الرب.

كذلك حياة اسماعيل و نسله لاحقا , فهي في "برية فاران" قرب بئر سبع, قُرب سيناء, تلك الصحراء المذكورة أيضا في سفر الخروج , كمكان مر به الإسرائيليون الخارجون من مصر في زمن موسى, فهؤلاء هم القبائل المعروفة بإسم الإسماعيليين, و الذين نجد الحديث عنهم في قصة يوسف, حيث كانوا هم أصحاب القوافل التي التقطته من البئر و باعوه في مصر, فقد ظلوا دوما مرتبطين جغرافيا بسيناء و صحراء الأردن, لا مكة.

أما المكان الذي عُرف بإسم مقام إبراهيم, فهو "بلوطات ممرا", الموضع المقدس, قرب حبرون (حيث مدفن إبراهيم و يعقوب و إسحاق), بين القدس و بئر سبع - و سمى المقام لأن إبراهيم وقف فيه أمام الرب, كما يخبرنا المؤرخ توم هولاند في كتابه. (12)

و الملفت أيضا هو إشارة هولاند  إلى أن هذا المكان (ممرا) صار من المزارات الوثنية المقدسة للعرب قبل الإسلام, حيث كانت تمارس فيه طقوسا تشبه طقوس الحج الوثني, التي ستُنسب لاحقا إلى مكة.

الخلاصة إذن أن الأماكن و الأحداث المتعلقة بحياة إبراهيم و عائلته: لوط و إسماعيل و إسحاق و يعقوب..إلخ, , قد ارتبطت حصريا بفلسطين و الصحراء المحيطة بها , لا مكة.

هنا نتذكر ما تخبرنا به المصادر الإسلامية, من أن الدين الإسلامي قد ارتبط بالفعل, في بدايته و لفترة مؤقتة, بفلسطين و القدس.

من هم القرشيون؟
نلاحظ في النصوص السابقة من المزامير, و التي تتحدث عن وادي بكّة, ذكر لجماعة "بني قورح", فمن هؤلاء؟

"
قورح" أو "قوره" في الحقيقة هو الشخص المعروف لدى المسلمين بقارون: هو عدو موسى الأثيم و منافسه, و الذي ابتلعته الأرض بأوامر الله. (13)

أما بنوه "بنو قورح" أو "القورحيون", فهم الذين صاروا كهنة البيت و سدنته (نسل قورح بن يصهار بن قهات بن لاوي, وقد اشتهر بعضهم بالغناء بين زمرة القهاتيين , كان منهم بوابون , وأحدهم وهو مسّلميًا وكيلًا على المطبوخات وبواب باب خيمة الاجتماع وكان هيمان المغني وصموئيل النبي بين القورحيين) (14) , هكذا نجد أن بني قورح كانوا بوابي المعبد, أي حملة مفاتيحه , و المغنيين, و حراس الخيمة, و وكلاء المطبوخات و الطبخ من أجل القرابين المقدسة (15)

ألا تذكرنا تلك المهام و الوظائف بشيء معين؟

حسب السيرة الإسلامية فهذه بالتحديد كانت وظائف عوائل قريش, في بيت الله في مكة: حجابة الكعبة (أي تولي أمر مفاتيحها), و رفادة الحجيج (إطعامهم) و سقيهم, تلك الوظائف التي يُقال أن جد محمد الرابع- قصي- هو من قسمها بين عبد الدار و عبد مناف. (16)

و يزداد الأمر تشويقا حين نجد في مراجع الكتاب المقدس أن اسم بنو قورح القورحيون ينطق أيضا ببنو قورش, (beno qorach) قرشي, qorchi  القرشيون! (17) (18)

و من وصفهم كذلك تتضح صلة كهنتهم بالغناء, مما يذكّرنا نوعا بقول القرآن عن قريش (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً) الأنفال, 35 (و المُكاء هو الصفير, بينما التصدية هي التصفيق باليد) – فما الذي يعنيه هذا تحديدا؟

الإسراء الغامض
((
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))  -  القرآن, من سورة الإسراء, 1
تخبرنا مصادر السيرة الإسلامية, أن الإسراء من المسجد الحرام في مكة, إلى المسجد الأقصى في القدس, قد حدث قبل الهجرة مباشرة, نحو عام 621 م - و لكن أول ما قد يلفت النظر في هذا الإدعاء, أنه في ذلك الزمن لم يكن هناك مسجد في القدس أصلا!

ففي تلك البقعة المقدسة منذ القدم عند اليهود,و المسماة "جبل الهيكل", تم هدم المعبد اليهودي فيها عام 70 بعد الميلاد, على يد الرومان, ثم تحت حُكمهم و حُكم البيزنطيين تم بناء عدة أبنية دينية في ذلك الموضع, أولا وثنية (كمعبد جوبتير, في القرن الثاني للميلاد) ثم مسيحية (كنائس) لكنها هدمت أيضا , و ما بين عام 610 و 615 – و تحت الحكم الفارسي القصير للقدس- بدأ اليهود إعادة بناء هيكلهم المقدس, إلا أن المحاولة تم إجهاضها على يد السكان المسيحيين , و الذين قاموا- على سبيل الإنتقام- بتحويل الساحة إلى مقلب قمامة, و هو ما تؤكده المراجع الإسلامية (19), و ظل هكذا حال المنطقة حتى دخول المسلمين في خلافة عمر ابن الخطاب عام 638 م.

قد يقول قائل هنا إن محمدا أُسرى به إلى ساحة الأقصى, على أساس أن المُقدّس هو الموضع ذاته لا الأبنية , لكن القرآن يتحدث عن "مسجد" أي مكان للسجود , كما أن روايات الإسراء تتحدث عن "بيت المقدس", و أن جبريل ربط الدابة عند "الباب " , و أن محمد "دخل" فوجد الأنبياء مجتمعين - إذن الحديث هو بوضوح عن مبنى قائم, لا عن ساحة مفتوحة, فضلا عن مزبلة!

و لكن إن لم يكن للمسجد وجودا في ذلك الزمن, فإلى أين أُسري بمحمد؟ بل و إلى أين ظل المسلمون يتوجهون بالصلاة طوال ثلاثة عشر عاما, قبل تحويل القبلة؟

حقا, متى تم تحويل القبلة؟
((
سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ - قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ - وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) -  القرآن, من سورة البقرة , 142-150

كما رأينا في مثال تناول القرآن للتراث اليهودي الخاص بإبراهيم و هاجر و الإسماعيليين, فيبدو أن التداخل بشكل عام بين نشأة الإسلام و اليهودية, هو تداخل كبير و لافت للنظر.

يُحكى لنا أن مكة كانت مدينة وثنية, لا يكاد يوجد فيها أثر لنفوذ يهودي, و مع ذلك نجد أن كثيرا جدا من القرآن ليس فقط موجها لخطاب بني إسرائيل, في السور اللاحقة المسماة بالمدنية و الموجهة ليهود يثرب, و إنما اللافت أن معظم السور المبكرة –المكية- أيضا تتحرك بداخل التراث اليهودي حصريا, فتحكي عن إبراهيم و إسحاق و يعقوب و الأسباط و يوسف, و تتناول مرارا تفاصيل قصة موسى و فرعون, مما يدعونا إلى التساؤل, عن أولا من أين اقتبس محمد هذا التراث الإسرائيلي؟ و ثانيا إلى من كان يتوجه به في مكة؟

و إن سلّمنا بأن وجود ورقة ابن نوفل مثلا, كفيل بالإجابة على السؤال الأول, فماذا عن الأهم: الثاني, لماذا يكلّف النبي العربي نفسه بحمل تراث خارجي غريب بالكامل إلى قومه, و ألم تكن هناك وسيلة أسهل لإنشاء دعوة دينية؟!

نعم, يُحكى لنا أن مكة لم يكن فيها نفوذ يهودي, و لكن المسلمون مع ذلك ظلوا يصلون إلى قبلة اليهود منذ بداية الدعوة و حتى ما بعد الهجرة, و لم يقوموا بتحويل القبلة إلّا بعد استقرارهم إلى جوار اليهود في يثرب, و هو أمر آخر يبدو لافتا سواء بمقاييس الدين أو حتى السياسة, و يدعو إلى المزيد من التشكيك في الرواية الرسمية.

و الحديث عن تحويل القبلة ينقلنا إلى قضية صادمة أخرى: و هي أن الدراسات الآثارية و التاريخية ترينا أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يصلون نحو مكة, و أن قبلات المساجد الأولى في العصر الإسلامي لم تكن تشير أي منها إلى مكة, و إنما إلى مكان آخر, أكثر شمالا بكثير!


لغز المساجد الأولى
((
فقد جاء القرآن غامضا بالنسبة لمكة المكان الذي ذكرت تلك الرواية أن القرآن نزل فيه و الذي خصص له الدور الرئيسي في تطور الدعوة و العقيدة الإسلاميتيين.  فالقرآن لا يذكر مكة سوى مرة واحدة و ذلك في إطار الحديث عن بعض أعمال عسكرية تتعلق بمكان للعبادة. كما أنه لا يحدد كون مكان العبادة هناك, و في موضع آخر نجده يسمي ذلك المكان "بكة".

و عدم التحديد هذا يصبح مسألة خطيرة على ضوء وجود بعض الفجوات في الرواية الإسلامية أو تلك التي توفرها بعض الأدلة الأثرية. من ذلك أن أبا حنيفة النعمان مثلا لم يكن في النصف الأول من القرن الثاني الهجري يكفّر من يقول أن الكعبة حق و في نفس الوقت يشك فيما إذا كان موضعها هو حتما "هذا البيت الذي يحج الناس إليه و يطوفون حوله أو بيت بخراسان". و قد روي عن عمر بن الخطاب أنه لم يحدد مكان القبلة و أنه اكتفى بقوله: "القبلة ما بين المشرق و المغرب" أما عبد القاهر البغدادي (توفى سنة 429 هـ \ سنة 1037 م) فقد أعطانا صورة أكثر تشددا في الموقف من مسألة موضع الكعبة بقوله: " و أصحاب الحديث لا يصححون إيمان من شك في موضع الكعبة كما لا يصححون إيمان من شك في وجوب الصلاة إلى الكعبة".

بالإضافة إلى ذلك هناك رواية أخرى تشير إلى أن قبلة جامع عمرو بن العاص في فسطاط مصر, التي وقف على إقامتها "ثمانون رجلا من الصحابة" كانت مشرقة جدا و أنها بقيت كذلك إلى أن هدم المسجد في زمن الوليد بن عبد الملك حين "تيامن" عامله بالقبلة الجديدة. يضاف إلى ذلك كله وجود بعض الأدلة الأثرية التي تشير من الناحية الأخرى إلى انحراف قبلة مسجدين أمويين آخرين باتجاه اليمين, و هما مسجد الحجاج بن يوسف في واسط و مسجد آخر يقع بالقرب من الموضع الذي بنيت فيه مدينة بغداد فيما بعد. الأمر الذي دفع بعض المؤرخين إلى محاولة البحث عن مكان القبلة حتى أواسط الفترة الأموية في شمال غرب الجزيرة العربية. و ذلك في حد ذاته يضع مسألة تغيير القبلة في الإسلام في إطار تاريخي جديد للغاية لأن القرآن, و إن كان تحدث عن وجود قبلة منسوخة و عن عملية نسخها فإنه لم يذكر بالتحديد أنها كانت القدس))  -  من كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر", سليمان بشير, ص59,60

((
يبدو أنهم اتجهوا في الصلاة إلى مكان ما في الشمال الغربي من جزيرة العرب. في الموضع الأوّل، لدينا الدليل الأركيولوجي على وجود مسجدين أمويين في العراق، مسجد الحجاج في واسط وآخر يُعْزا إلى الحقبة ذاتها تقريباً قرب بغداد. هذان المسجدان متوجهان شمالاً إلى درجة كبيرة بمقدار 33 درجة و30 درجة على الترتيب , ومع هذا يمكن لنا أن نقارن الشهادة الأدبية التي تفيد أن القبلة العراقية كانت نحو الغرب. ثانياً، لدينا الدليل الأدبي المتعلق   بمصر, فمن الجانب الإسلامي هنالك تقليد يقول إن مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط كان متوجهاً نحو الشمال البعيد، وكان لابد من تصحيحه تحت حكم قره بن شريك. من الجانب المسيحي لدينا عبارة شهيرة ليعقوب الرهاوي، وهو شاهد عيان من ذلك الزمن، تقول إن «المهغرايه» في مصر كانوا يصلون إلى الشرق نحو الكعبة. والجمع بين الدليل الأركيولوجي من العراق والدليل الأدبي من مصر يشير دون لبس إلى حرم في شمال غرب الجزيرة العربية، وبهذا يصعب أن نتجنب الاستنتاج بأن موقع الحرم الهاجري في مكة كان ثانوياً.)) - من كتاب "الهاجرية" لباتريشيا كرون و مايكل كوك.. ترجمة نبيل فياض, ص 17



يبدو أن مساجد القرن السابع- قرن ظهور الإسلام- لم تكن قِبلاتها تشير إلى مكة - نتحدث عن المساجد الأموية في مصر و العراق و الشام, و نتحدث عن فارق انحراف كبير جدا لا يمكن أن ينتج عن خطأ في التوقيع الهندسي, على الأخص من قوم لهم خبرة بالإرتحال و الإتجاهات الجغرافية.

المصادر القديمة الإسلامية و غير الإسلامية تؤكد هذه الملاحظة : فالبلاذري مثلا, المؤرخ في العصر العباسي, يقول أن قبلة مسجد الكوفة بالعراق, و الذي يفترض أنه بنى عام 670 , تشير إلى الغرب (20), بينما كان من المفترض أن تشير إلى الجنوب مباشرة نحو مكة , أما الكاتب و الرحالة المسيحي يعقوب الرهاوي فيذكر حوالي عام 705, أن "المهاغرايا" (العرب) في مصر يصلون "جهة الشرق, نحو الكعبة"(21)  (ولا ندري أي كعبة يقصد التي تقع شرق مصر!), بالإضافة لغيرهما من المصادر.

في مرحلة ما, ربما في النصف الأول من القرن الثامن, تم تعديل قبلات المساجد لتتجه ناحية مكة. (22)

هذا يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين, و ذكرناه سابقا: أن صراع البيوت المُقَدَّسة لم يتوقف, و مُعضلة القِبلات لم تُحسم, و وضعية مكة كعاصمة للإسلام لم تستقر, إلا في وقت متأخر جدا, و أن الروايات و التفاسير الإسلامية قد تم صياغتها لاحقا, خصيصا لملائمة ذلك الوضع الجديد و دعمه.

هوامش و مراجع

(7)
الترجمة من:   Journal Asiatique/A.L.Premare/V.288/T2/2000/p261-367 -  http://www.alawan.org/article7781.html
(8) Stuart Munro-Hay, "Abraha" in Siegbert von Uhlig, ed., Encyclopaedia Aethiopica: A-C (Wiesbaden: Harrassowitz Verlag, 2003)
(9) S. C. Munro-Hay, Aksum: An African Civilization of Late Antiquity (Edinburgh: University Press, 1991), p.87
(10)
هناك استثناءات لاستخدام أفيال حربية في أفريقيا , مثل ما حدث في إحدى
المعارك في مصر القرن الثالث قبل الميلاد, و مثل الأفيال التي استخدمها القرطاجيون لمحاربة الرومان في نفس الزمن تقريبا , لكن تلك الأفيال تصنف من سلالة معينة صغيرة الحجم, يسمى "الفيل الأفريقي الشمالي" Loxodonta africana pharaoensis ,  و قد انقرضت تلك السلالة بحلول القرن الثاني بعد الميلاد http://www.itsnature.org/rip/north-african-elephant/
(11) http://biblehub.com/hebrew/habbacha_1056.htm-  http://biblehub.com/hebrew/1056.htm
(12) 
كتاب "تحت ظل السيف
", In the Shadow of the Sword: The Battle for Global Empire and the End of the Ancient World , ص 203..
(13) http://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-002-Holy-Arabic-Bible-Dictionary/21_KAF/KAF_133.html(14) http://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-002-Holy-Arabic-Bible-Dictionary/21_KAF/KAF_134.html
 (15) http://en.wikipedia.org/wiki/Korahites
(16) http://ar.wikipedia.org/wiki/
سدانة_الكعبة
(17) http://www.internationalstandardbible.com/K/korahites-sons-of-korah.html
(18) http://www.biblestudytools.com/encyclopedias/isbe/korahites-sons-of-korah.html
(19)
يقول ابن كثير (وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى
أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.) - البداية والنهاية/الجزء السابع/فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
(20)
فتوح البلدان, ص 276 - و النقل عن كتاب الهاجرية.
(21)  - British Museum, Add. 12, 172, f. 1242.: Wright, Catalogue of Syriac Mauscripts, p. 604
و النقل عن كتاب الهاجرية.
(22)  Craig Winn, Prophet of Doom, VA: Cricketsong books, 2004


الجزء الأول

الجزء الثالث
الجزء الرابع



هناك تعليق واحد:

  1. شكرًا موسى كلامك دقيق
    لكن ما هم سر يثرِب
    هل ليثرب علاقة بالإسلام وإذا كان محمد شامي المولد والنشأة والوفاة فهل القبر الموجود في بثرب أيضا مفبرك مثله مثل مكة السعودية المفبركة
    تحياتي

    ردحذف