لغز الحضور الإلهي في اليهودية والمسيحية والإسلام..
الجذر العبري "ش ك ن" له أصل سامي، ونجده كذلك في العربية في كلمة "سكن" بنفس المعنى تقريبا : أي أقام في مكان واتخذه موضعا.. وقد ورد الجذر في التوراة بهذا المعنى عدة مرات، فقيل مثلا أن يافث "يسكن" في خيام سام (تكوين 9-27)..
ولكن في سفر الخروج نجد ذات الجذر يستخدم تجاه الرب نفسه، بمعنى الإقامة أو ربما الحلول، فقيل أن مجد الله "يسكن" على جبل سيناء (خروج 24-16)..
مع رحيل الشعب يأمر الرب موسى أن يكلم بني إسرائيل لكي يبنون للرب "مقداش" (أي ملجأ آمن، أو حرم) لكي "يسكن" وسطهم (25-8)، ويحدد يهوه لهم بالتفصيل كيف يبنون ويزينون هذا "المسكن" (25-9)، وهو تابوت العهد المزخرف والمغلق بغطاء من الذهب الخالص..
وبعد ذلك يأتي الأمر ببناء خيمة (الإجتماع) ليتم وضع التابوت بداخل غرفة مخصصة فيها - والخيمة هي نواة الهيكل اليهودي، وتسمى أيضا "مسكن" (منذ خروج 26-1، وتتكرر التسمية عبر الكتاب)..
ولكي نفهم الصورة يمكننا تذكر أن الدين ينشأ عن دمج عدة مصادر وأفكار معا، بتناقضاتها: فبينما ظهر الله (إيل) عدة مرات في سفر التكوين لآدم وإبراهيم ويعقوب مثلا، إلا أنه حين ظهر لموسى في سفر الخروج أعلن أنه يظهر لأول مرة بإسم جديد هو يهوه (خروج 6-3)، ويخبرنا علماء الآثار أن الإله يهوه لا ينتمي إلى أرض كنعان وإنما ترجع أصوله بالفعل إلى بدو سيناء وصحراء الأردن (مما يجعل وجود اسم يهوه أحيانا في سفر التكوين هي إضافات متأخرة، في إطار تحول اليهود اللاحق من الوثنية إلى التوحيد ودمج إيل مع يهوه ليصبحا نفس الإله).. ولأن اليهودية تدمج بين عدة عقائد مختلفة ، فلا غرابة أن نجد لله خصائص مختلفة، فبينما نقرأ في عدة مواضع أنه يسكن السماء، إلا أن آيات أخرى تخبرنا أنه كذلك يسكن - مثل كثير من الآلهة القديمة- على جبل مقدس..
وبينما كان الرب يتجلى في شكل شجرة محترقة (لموسى في أول لقاء، خروج 3-2)، أو في الصحراء على هيئة عمود سحاب نهارا، وعمود نار ليلا (لكي يهدي الشعب الطريق في سيناء، خروج 13-21)، فإنه بعد بناء التابوت والخيمة المتنقلة وتأسيس الكهنوت الهاروني، صار يتجلى لقومه في شكل سحابة عند الخيمة، يأمرهم بأن يقدموا له الذبائح عند باب الخيمة حيث يجتمع الرب معهم ليكلمهم، ويكون دائما وسطهم (خروج 29)..
وكأن اليهود عرفوا الرب يهوه في طريقهم للخروج من مصر، فأخذوه معهم من سيناء، محمولا في التابوت، إلى أرض فلسطين!
-------------------------------------
وقد حظى التابوت والخيمة (المسكن) بقداسة تليق بتواجد الله فيهما، ليس فقط من ناحية عناية البناء والزخرفة الفاخرة، ولكن كذلك من جهة التعامل: حيث يأمر الرب الكهنة اللاويين - أبناء هارون- أن يحملوا الخيمة ويعتنوا بها ويخيموا حولها، كما يهدد أي فئة أخرى تقترب من الخيمة بالموت (العدد 1-48،51).. وهو تهديد يتكرر مع تابوت العهد (العدد 4-20) بل ويتم تنفيذه لاحقا في عهد داود حين قام رجل بمد يده ليسند التابوت، خوفا عليه من السقوط، فيضربه الله فيموت فورا (صموئيل الثاني 6-6)..
ويرتبط مصير مسكن الله مع مصير شعبه، حيث نقرأ في أسفار يشوع وقضاة وصموئيل وملوك وأخبار الأيام أن الإسرائيليين ظلوا يحملون الخيمة معهم في رحلاتهم وغزواتهم.. وبعد دخول فلسطين وتقسيم الأرض بين القبائل، تم نقل الخيمة إلى أرض إفرايم (قبيلة يشوع، خليفة موسى)، حيث ظلت هناك طيلة فترة القضاة (نحو ثلاثة قرون)، ولاحقا سيحل محلها الهيكل السليماني كمسكن للتابوت..
وأما التابوت فقد أخذه الإسرائيليون معهم ليساندهم في الحرب ضد الفلسطينيين، ولكن بعد هزيمتهم قام أعداءهم بأخذ التابوت إلى ديارهم، وتحكي القصة أن الفلسطينيين أصابتهم عندئذ البلاءات كالأورام والطاعون، حتى اضطروا لإعادة التابوت لشعب الله، حيث تبادلته عدة عوائل إسرائيلية حتى وصل إلى الملك داود الذي بنى له خيمة مخصصة، إلى حين جاء سليمان وبنى هيكله، واضعا تابوت الرب في غرفة خاصة (قدس الأقداس)، ويحكي أنه عندها امتلأ المعبد بسحابة، حيث أن مجد الله ملأ بيت الله (ملوك الأول 8- 10،11)
وبعد الغزو البابلي للقدس وتدمير الهيكل وسبي الشعب إلى بابل، لا نعرف ماذا حل بالتابوت الإلهي..
-------------------------------------
هذا الزوال لمركزية الكهانة في القدس، وضياع التابوت، سيزلزل العقلية اليهودية ويفتح المجال لفكر جديد راديكالي، أكثر ديمقراطية دينية إن جاز التعبير، فالقداسة لن تزول وإنما بالأحرى سيتم توزيعها على الشعب كله..
ففي سفر إرميا (وإن كانت تدور أحداثه في القرن السابع ق.م، إلا أنه كتب على مراحل واحتوى إضافات متأخرة حتى القرن الثاني ق.م) نقرأ (3-16) توجد نبوءة بأثر رجعي تحكي أن الإسرائيليين سيأتي عليهم زمن يزدادون عددا ثم لا يذكرون تابوت الرب ولا يهتمون به.. وفي تفسير الحاخام راشي للآية (أواخر القرن الحادي عشر للميلاد) يعلق بأن الشعب كله سوف يتشرب روح القداسة حتى أن الحضور الإلهي سيكون عليهم بشكل جمعي، وكأن تجمعهم هو ذاته تابوت العهد..
وفي سفر المكابين الثاني (2-4،8) يحكون أن الله تعمد إخفاء الخيمة والتابوت، حيث أصدر أوامره للنبي إرميا أن يحملهما معه، ويخفيهما في كهف لا يعرف مكانه أحد، ويغلق المدخل، وذلك حتى يأذن الله بعودتهما مرة أخرى..
-------------------------------------
وكان هناك عامل آخر ساهم في اللامركزية الدينية وهو الترجومات، إذ أن اليهود - منذ بعد السبي- بدأوا يتخذون الأرامية كلغة رئيسية، وإن ظلت الطقوس والتلاوات تقام بالعبرية، حتى ظهرت الحاجة إلى وجود ترجمات (خاصة أرامية) يفهمها الشعب، كانت تتلى على الشعب إلى جوار النصوص العبرية الأصلية، وذلك منذ منتصف القرن الأول للميلاد..
وفي تلك الترجومات، وفي التلمود والتراث اليهودي الحاخامي، ظهرت نزعة متجردة تبعد الله عن الأنسنة والتجسد، فلم يعد من اللائق عليه أن يتمشى وينزل ويتصارع ويحبس في التوابيت كما كان الحال سابقا، وبالتالي ظهرت تعبيرات بديلة تعبر عن الظهور الإله بشكل غير شخصي وغير مباشر..
-------------------------------------
من تلك التعبيرات كلمة "شكينه"، سكينة، وهي كلمة عبرية لم ترد في التناخ بتلك الصيغة، بل وردت بالمعنى كما ذكرنا، ثم صارت تستخدم في الكتابات اللاحقة بعد هدم الهيكل عام 70 للميلاد، بشكل يرتبط بالبركة والعناية الإلهية، بديلا عن ذكر الإله نفسه، حيث نقرأ أنه حين يقوم المؤمن بدراسة التوراة فإن السكينة تكون بينهم، وكذلك الحال حين يجتمع عشرة للصلاة، أو يجلس ثلاثة للقضاء، كما أن السكينة تنزل على الناس تدعمهم في المرض والشدائد..
وهكذا صار الإله أكبر ابتعادا وتجردا عن كل ما هو أرضي، وبنفس الوقت صار أكثر إتاحة للمؤمن العادي..
وقد وصفت السكينة بأنها نور مشع يعبر عن بهاء الله، كما ارتبطت مع الروح القدس، وهي روح الله الواردة في أول سفر التكوين، فشبهت بالحمامة وأن لها أجنحة.. كما قيل بأن لها صوت رنين مثل الجرس..
وأما في بعض الكتابات القبالية والغنوصية، فقد اكتسبت السكينة هالة أنثوية، بل وتوصف بأنها "ابنة الله"..
-------------------------------------
التعبير الثاني يظهر في الترجومات والأدب الحاخامي كتعبير عن الحضور الإلهي هو "ممرا"، وهي كلمة أرامية مرتبطة بالجذر العبري "أمر"، والتي تعني - كما في العربية- كلاما أو خطابا أو حكما، ولعلها مرتبطة بإسم المكان الذي تلقى إبراهيم الوحي عنده "بلوطات ممرا)..
لاحقا صارت تلك الكلمة بديلا لله أو وكيلا عنه، فيقال مثلا أنه في البدء قامت ممرا الله (أمر الله أو حكمه أو حكمته) بخلق الكون، كما يقال "صوت ممرا" بدلا من صوت الرب، كما أن ممرا تحفظ إسرائيل وتقوم بالمعجزات في مصر وهكذا..
ذلك الإستخدام لم يكن بدعة تماما، فأول سفر من التوراة يخبرنا أن الله خلق العالم بكلمة، بشكل يبدو مشابها للإله المصري القديم بتاح (الفتّاح) والذي خلق العالم بأن فتح فمه- ولكن الجديد هنا أن الكلمة بدا وكأنها تتحول- بفضل التلاعبات الفلسفية واللغوية- إلى كيان مستقل..
ثم بالطبع هناك التأثير اليوناني، حيث مفهوم اللوغوس (الكلمة، المنطق، العقل، الفكر).. ذلك التأثير كان بدأ يتسرب إلى العقلية اليهودية، فنجد مثلا أن فيلون- الفيلسوف اليهودي السكندري 30 ق.م- 50 ب.م- يكتب باليونانية عن اللوغوس وكأنه الوكيل الذي خلق الله العالم، ويديره، من خلاله، كما فسر النص التكويني الذي يقول أن الرب خلق الإنسان على صورته، مستنتجا أن اللوغوس إذن هي صورة عن الله، تنعكس على الأشياء، كالظل الذي يمتلك شكل الشيء ولكن لا يعكس نوره وبهاءه..
تلك المقارنة - بين الأصل المقدس والإنعكاسات الظلالية- تذكرنا مباشرة بفلسفة أفلاطون عن عالم المثل وانعكاساته على عالم الواقع، وهو تأثير يظهر مع الرواقيين الذين تأثروا بأفلاطون وبلوروا مفهوم لوغوس سبيرماتيكوس، وهو جوهر الوجود الذي يخلق الأشياء، ولاحقا ستتبلور الأفلاطونية الجديدة، والتي تربط اللوغوس فلسفيا بأقانيم الوجود (العقل والنفس والروح)..
ولعل تلك التطورات مرتبطة بفقدان الشعب اليهودي لحضور الإله بذاته في طقوس الهيكل، فصار البديل هو تلاوة واستحضار كلمات الله المقدسة التي تقوم بدورها في طمأنة المؤمنين وحفظ المجتمع، فكما أن مراسيم الملوك تعبر عن حضورهم وإن غابوا بالجسد، فكذلك الكلمة المقدسة هنا هي حضور الله ووكيله والواسطة بينه وبين شعبه..
-------------------------------------
كلمة ثالثة مستخدمة هي "مجد الله" يقرا"، وهي كلمة أرامية تستخدم في الترجوم، فمثلا حين يتحدث النص في سفر الخروج عن جبل الله، تأتي الترجمة "جبل مجد الله"، مما يستبعد الله من أي حضور جسدي مادي، ويستبدل به هالة معنوية من المجد..
-------------------------------------
هذا هو السياق الذي ستتبلور فيه، وبالتوازي معه، المسيحية كدين وكفلسفة، بمفاهيم الأقانيم والروح القدس كمصدر للوحي، والكلمة كوسيط بين الله والبشر، وإن تجسد في شخص يسوع، فتلك الأفكار لا يمكن فهمها إلا بفهم الخلفية الثقافية التي أفرزتها..
وكذلك نجد معنى الحضور الإلهي، مثلا في متى18-20 يقول يسوع (لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ)..
كما نجد تلك التأثيرات مبطنة في هذا النص من إنجيل يوحنا 1-14 (وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ).. فالكلمة هي اللوغوس، ممرا، أي الحضور الإلهي على الأرض.. والحلول هنا هو السكن، إذ أن الكلمة اليونانية "سكنو" مرتبطة بميثلتها العبرية، وهنا إحالة للسكن الإلهي أو الشكينة الحاضرة مع الشعب.. وأما المجد فهو الكلمة الأرامية الترجومية "يقرا"..
-------------------------------------
لو سألت المسلم العادي عن معنى "السكينة" فسيكتفي أنها شعور بالطمأنينة، بدون أي أبعاد لاهوتية أخرى..
والكلمة ترد في القرآن في عدة مشاهد، بالفعل أكثرها تتعلق بطمأنة الله لقلوب المؤمنين..
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) الفتح 4
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح 18
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) الفتح 26
(ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) التوبة 26
(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) التوبة 40
ومن اللافت أن جميع تلك الآيات - التي وردت في سورتين فقط- جاءت كلها في سياق مرتبط بالحرب والجنود الإلهية القادمة لنصرة المؤمنين، مما يمكن أن يمنح السكينة معنى روحي أقوى من مجرد التعبير المجازي عن الهدوء النفسي..
وفي موضع وحيد تأتي السكينة بمعنى يرتبط مباشرة بالسياق الموسوي المذكور، فيحكي القرآن عن قصة تنصيب صموئيل لشاؤول ملكا (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة 248..
إن المسلم العادي قد يمر على تلك الآية مرور الكرام، ولكن حين نطلع على الخلفية اليهودية لتابوت العهد والشكينه الكامنة فيه، فإن ذكرها بالقرآن بهذا الشكل لا يمكن أن يكون صدفة، فإما أن الكاتب يقصد الحضور الإلهي على النمط اليهودي الترجومي، وإما أنه ينقل عن اليهود كلمات لا يدرك معناها ويفرغها من محتواها اللاهوتي، فيجعلها مجرد شعور عادي بالطمأنينة..
في تفسير الطبري للآية المذكورة من سورة البقرة يحكي تفاصيل كثيرة عن قصة ضياع التابوت من وجهة نظر إسلامية، ثم يأتي إلى تفسير السكينة فيقول أن أهل التأويل- كالعادة -اختلفوا فيما تعنيه:
فبينما رأى البعض ببساطة أنها الطمأنينة والوقار ، فهناك أقوال جعلت لها أبعادا أعمق، فينقل الطبري قولا عن علي ابن أبي طالب أن السكينة : هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان..
والريح هنا تذكرنا بالروح (فالكلمة واحدة في العبرية، وفي سفر التكوين أن روح الله كانت ترف على وجه المياه، فيهوه هو إله هوائي بامتياز كما نرى من ظهوراته)..
ونجد أقوالا أخرى خيالية : السكينة ريح خجوج, ولها رأسان- السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان-السكينة لها جناحان وذنب- لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة - وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة، وعن وهب بن منبه, عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.. وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.. أو أنها طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء, أعطاها الله موسى, وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد... و يحكي أحدهم: سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
وفي الحديث نجد ما يشبه النصوص التلمودية المذكورة، ففي صحيح مسلم (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)..
وفي عدة مصادر (كسنن أبي داود وعمدة التفسير وتخريج المسند) توصف حالة الوحي المحمدي بأن رسول الله "غشيته السكينة"، وهو تعبير يبدو غريبا لو تذكرنا حالة الإرتعاش والتعرق والثقل والإرهاق التي كانت تصيبه- فالأقرب أن السكينة هنا لا علاقة لها بالطمأنينة، وإنما بروح الوحي ذاته..
وفي روايات أخرى نكتشف أن السكينة ليست فقط مشاعر مجردة، وإنما هي كيان مستقل، ففي البخاري ومسلم : (قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ ، وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ ، أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ ، قَالَ : فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : اقْرَأْ فُلَانُ ، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ).. وبالطبع فوصف السحابة هنا لا يمكن إدراك مدلولاته إلا بالرجوع إلى الخلفية اليهودية المذكورة..
وهناك روايات عديدة تربط السكينة بمعنى الروح الإلهية، ففي مسند أحمد ومجمع الزوائد وغيره ينقل عن علي أنه قال ( لا خيرُ هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكرٍ ثمَّ عمرَ رضي اللهُ عنه وما نبعد أنَّ السكينةَ تنطقُ على لسانِ عمرَ رضي اللهُ عنه)..
فيبدو أن بعض التعبيرات تجد طريقها بالوراثة إلى النصوص الدينية، حتى وإن فقدت الكثير من وظائفها، وذلك بشكل يمكن مقارنته بعالم التطور البيولوجي حيث نرى الأعضاء الآثارية التي نرثها مع فقدانها لفائدتها (كشعر الجسد وضروس العقل وعضلات الأذن وبقايا الذيول والجفن الثالث..إلخ)، وهي عناصر يستحيل فهمها بدون فهم الخلفية التاريخية التي أنتجتها، فالأديان- مثل الكائنات- هي شجرة واحدة متصلة، وإن اختلفت أشكال فروعها..
https://en.wikipedia.org/wiki/Shekhinah
http://www.jewishencyclopedia.com/articles/13537-shekinah
http://www.jewishencyclopedia.com/articles/10618-memra
http://www.thefirstgospel.com/rich_text_2.html