الأحد، 12 أبريل 2020

إسلامات مصرية



الدين بنظري يشبه الفايروس، من حيث أنه يدخل الأجساد- أو العقول- ويكمن بداخلها لفترة، ثم يبدأ في استغلال مواردها لصالحه فينمو فيها، ويمرضها، ثم إنه ينتقل من جسد لآخر حتى يصبح وباءا منتشرا مدمرا للأفراد والمجتمعات..

ومثل الفايروس، فإن الدين أيضا يتطور ليبقى، فهو يتخذ أشكالا عديدة حسب المرحلة، سأناقش بعضها هنا..

----------

في العصر الحديث، وفي مصر تحديدا، رأينا الإسلام الإشتراكي بالستينات، متماشيا مع الأجواء الناصرية الشائعة، فظهرت الكتابات الإسلامية اليسارية، تمجد الفقراء العاملين وتلعن الطبقات المستغلة، وتقدم الإسلام على أنه أيديولوجية ثورية ضد الإستعمار، وبرزت رموز أبو ذر الغفاري (لص وقاطع طريق، في ثوب ثوري يساري) إلى جوار علي والحسين، في ثورتهم الهاشمية البروليتارية ضد البرجوازية الأموية - وكانت الآية المفضلة للمرحلة هي "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"..

وأما في عصر الإنفتاح الساداتي فقد اكتشفنا أن الإسلام بطبيعته يؤيد الحرية الإقتصادية، كما اكتشفنا- فجأة، وبرعاية الرئيس المؤمن- أن الشيوعية مذهب إلحادي، فرأينا الكثير من المفكرين ينتقلون من معسكر اليسار إلى الأسلمة، ويؤيدون أمريكا باعتبارها أهل كتاب وليسوا ملاحدة مثل الماركسيين- وبعد معاهدة كامب دافيد ستصير الآية المفضلة للمرحلة هي "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"، وأما على المستوى الإجتماعي الرأسمالي فأية المرحلة هي "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا"، والتي تفنن الشعراوي في شرحها..

والشعراوي هنا له أهمية خاصة للمرحلة، فقد روج للإسلام اليميني حيث يجب على الفقير أن يرضى بقضاء الله العادل، ولا يتطلع إلى ما في يد الغني..إلخ، كما صرح متفاخرا أنه سجد لله شكرا  على هزيمة مصر الشيوعية أمام إسرائيل في 67 ، بل وكان له دور كبير في الترويج لما سمي بموجة توظيف الأموال والتي تم النصب فيها - بإسم الإقتصاد الإسلامي- على آلاف من المصريين..

ولكن أهمية الشعراوي الكبرى بنظري تكمن في تأسيسه لتيار إسلامي شعبوي جديد يمكن تسميته "الإسلام الفلّاحي"..

فمع الهجرة المتزايدة من الريف للقاهرة، وعودة كثير من المصريين من الخليج الوهابي، تم استقبالهم بالإسلام مناسب لهم: شيخ يجلس على مصطبة ويفسر الكتاب القرشي بلهجة ريفية مصرية فيضرب الأمثال بالحمار والجاموسة والجلة والقلة والدود وأبو قردان، بشكل يشبه جلسات الكتّاب التي كان يتم تحفيظ الأطفال للقرآن فيها ، أمام الجماهير الجالسة على الأرض مفغورة الأفواه من فرط الإنبهار..

وبعد أن كان الإسلام يتسم بنوع من النخبوية- مع شيوخ على مستوى عالي مثل محمد عبده أو شلتوت أو عبد الحليم محمود- صار له نسخة شعبية رائجة تصل للمواطن البسيط- تلك النسخة التي ستنجح أخيرا في إزاحة الشعبوية اليسارية الناصرية..

وبالطبع لم يكن الشعراوي هو النسخة الوحيدة، فمثلا كان هناك الأكثر شعبوية وهو الشيخ  الكفيف كشك، والذي يمتاز بالقفشات (النكات) مع طول اللسان والجعير بشكل غوغائي، فيسخر من الفنانين في أقاويل مشهورة (شريفة فاضل، لا هي شريفة ولا أبوها فاضل.. عبد الحليم حافظ ظهرت له معجزتين: أنه يمسك الهوى بإيديه وأنه يتنفس تحت الماء.. وعن أم كلثوم قال: امرأة في السبعين تقول "خدني لحنانك خدني"، يا شيخة خدك ربنا.. كما قال: كنا نبحث عن إمام عادل فجاءنا عادل إمام..إلخ).. وبعكس الشعراوي- الذي كان صديقا للفنانات التائبات وسببا في هدايتهن- فقد كان كشك يمثل المعارضة الثورية للنظام والنخب، وإلى الآن تحكى الأساطير عن شجاعته أمام الجهات الأمنية وكيف أنه مات ساجدا كما تمنى، بشكل حوله لأسطورة شعبية في أذهان العوام..

وأما للشباب الأفضل تعليما وثقافة فقد ظهر نموذج مختلف أنسب لهم: دكتور العلم والإيمان، والذي يربط - بكل وقار- حقائق الدين بمكتشفات العلوم، ويهزم صديقه الإفتراضي الملحد (الشيوعي ربما؟) بالضربات القاضية..

ثم هناك- بالطبع- الإسلام الإخواني، والذي هو خط شعبوي من الإسلام السياسي يرجع إلى عصر سقوط الخلافة، وظل محافظا على شعبيته التي تزايدت مع عصر الصحوة في السبعينات، يتراقص ما بين المعارضة والمداهنة لكل حاكم..

كما تم فتح المجال للتيار السلفي الوهابي  لينتشر كالطاعون تحت جلد المجتمع، وأكثره بعيد عن السياسة لا يتكلم في حكم ولا يعرف الفارق بين البار والبرلمان، وإنما يكتفي بحشو أدمغة متابعيه بالصلوات والنوافل والأذكار ورياض الصالحين، إلى جوار حكايات عذاب القبر ، والحنين إلى زمن واإسلاماه، والمرأة العفيفة التي لا تخرج من دارها إلا إلى بيت زوجها ثم القبر..

وكانت الثمانينات هي عصر الحجاب: روج له المشايخ والسلفيون، كما قام الإخوان - المسيطرين على الجامعات- بشراء وتوزيع قطع القماش على الفتيات، كما تكفلت الأسلمة الريفية باستخدام سلاحها الفلاحي الأثير ضد السافرات، وهو تشويه سيرة الفتاة والطعن في رجولة أبيها أو أخوها أو زوجها، حتى يتقي الله ويستر عوراته خوفا من الفضيحة والعار، لا اقتناعا بأوامر الله..

وفي التسعينات، وإلى جوار الإسلام اليساري واليمين والأزهري والريفي والغوغائي والسلفي ظهر الإسلام المودرن الكيوت المخفف، متمثلا في عمرو خالد، والذي سيفرخ بعد ذلك معز مسعود ومصطفى حسني وغيرهم- شباب مهندمين متأنقين، لا يشبهون السلفيين إلا في بعدهم عن السياسة، ولا يشبهون الإخوان إلا في سطحيتهم وجهلهم بأصول الدين، إلى جوار اشتراكهم جميعا في اليمينة المحافظة، ولكن بشكل يتناسب مع قيم السوق الحديث - فهكذا تحول الإسلام إلى سلعة يتم تزيينها وإخفاء عيوبها وتقديمها لمستهلك لا يقرأ ولا يتحزب، في شكل مخدر لذيذ وبديل لأي فعل حقيقي..

وتدور الأحداث: الموت السياسي والإحتقان الشعبي في عصر مبارك، ثم الثورة ثم صراعات الحكم، وعلى المستوى الإجتماعي مزيد من الإحباط والضياع والإستهلاكية، إلى جوار الغوغائية الشعبية المتمثلة في انهيار سلوكي وفني وثقافي عام..

وكالعادة تحور الإسلام ليفرز شكلا جديدا، يمكن أن نسميه "الإسلام الشوارعي" أو "الإسلام السرسجي"..

والكلمة الأخيرة يصعب شرحها لغير المصريين: فهو تعبير شبه عنصري نقيض للرقي والتهذيب، موجه لمجموعة من الشباب المراهقين القاهريين السوقيين أصحاب السمات المتشابهة: يرتدي ملابس لامعة فاقعة، أحزمة غريبة الشكل، سراويل ضيقة، شعر محلوق من الجانبين فقط مع كتلة أمامية مرتفعة، وغالبا ستراه يسمع الأغاني الصاخبة (المهرجانات) أو يرقص عاري الصدر بالشارع حاملا المطاوي، أويقف على النواصي يجعر بفم مفتوح أو يتحرش بالفتيات، مع الكثير من "لامؤاخذة" و"خلصانة" و"أوقسم بعهد الله"..إلخ.. باختصار يمكنك تخيل الممثل محمد رمضان..

هذا الجيل في العموم لا يمكن أن نصفه بأنه إسلامي النزعة بالشكل التقليدي، بل قد يحتوي عناصر علمنة شعبية، كما قد يمتلك معايير أخلاقية بدائية فطرية تنبع من "الجدعنة والرجولة والتكاتف وأخد الحق وزمالة الشارع"، لا من الدين أو القانون- مما يتجلى مثلا في ظاهرة الأولتراس التي تخلط الكرة بالسياسة بالثورة..

ولكن هذا لا يمنع وجود عناصر إسلامية نابعة من التربية ودروس المساجد، والتي لا يقابلها  بديل فكري أو أيديولوجي يصل للشارع سواها: تلك العناصر تتجلى في بعض سلوكيات ريفية محافظة تستخدم مصطلحات العورة والدياثة وتحقر المرأة بشكل عام (فالتحرش الشوارعي مثلا يظهر في ألفاظ تعبر عن الإشتهاء والشتم والدعوة بالهداية، مما يعكس الكثير عن الفصام الذي نعيشه)..

ولو كان الإسلام الكيوت المودرن يؤيد النظام العام ولا يتدخل بالسياسة، فإن الإسلام الشوارعي يرتبط بالمعارضة، أو لنقل أن المعارضة الإسلامية تستغل الشعبوية السرسجية- فالأولتراس مثلا يتم اختراقهم ليس فقط من قبل التيارات اليسارية والأناركية، ولكن من الإسلاميين أيضا..

هذا الإسلام الجديد يجمع ما بين سمات الإسلام وسمات الشارع المصري، على تناقضها: فالمتابع للخطاب الإسلامي السياسي عموما- سواء رموزهم الإعلامية أو جماهيرهم- يلاحظ منذ فترة زوال هالة التهذيب اللفظي التي كانوا يرفعونها، على أساس أن المسلم ليس بفحاش ولا طعان..إلخ، فعلى العكس: منشوراتهم ومقاطعهم وتعليقاتهم صارت تمتلئ بالسب والفحش بأقذر الألفاظ لكل من يخالفهم، ولا يعرفون في ذلك حدودا ولا أخلاقا..

هذا نراه في نموذج مثل أحمد البحيري، والذي وصف الراحل فرج فودة بسبة قذرة في عنوان أحد مقاطعه، وكذلك يفعل بشكل منحط للغاية تجاه كل خصوم جماعته .. كما نراه يتجسد في ظاهرة إخوانية معارضة هو عبد الله الشريف، صاحب البرنامج الشهير، فالرجل خطابه سياسي، ولغته شعبية تليق بسائقي التوكتوك، إلا أن لحيته سلفية، وهذا - ولا شك- من أهم أسباب شعبيته- فكأنه رأس داعشي تم تركيبه على جسد شاب ثوري شعبي..

وعبد الله، صاحب السمت السلفي والذي كان يعمل خطيبا لأحد المساجد، لا يلتزم بالبروتوكلات الإسلامية التقليدية، فهو يتساهل في إيراد أي معلومة أو شائعة تؤيد موقفه، بل ويبدو أحيانا وكأنه يتعمد الكذب (متجاهلا وصية "فتبينوا")، وهو يسخر من خصومه (ضاربا عرض الحائط بآية "لا يسخر قوم من قوم") كما أنه يتجاهل "ولا تنابذوا بالألقاب" فيطلق الأوصاف المسيئة على خصومه..

وربما تفسير تلك اللغة هي أن الخطاب الإسلامي السرسجي يجمع ما بين ثقافة دينية تكفر (ليس علينا في العلمانيين سبيل)، وما بين ثقافة شعبية شوارعية لا تستطيع التعبير عن مشاعرها بشكل مهذب حضاري..

عبد الله مثلا  حين يسيء إلى خصومه فهو ينتقي الألفاظ النسائية متعمدا  (مثلا يسمي أحد منتقديه بلقب "سماح بعد بكرة)، والتفسير بنظري أن صاحبنا يجمع ما بين ثقافة دينية ترى المرأة عورة ومسبة، وبين ثقافة شعبية تستخدم الألقاب المهينة كسلاح في الحروب وخناقات الحواري.. وحين أراد الإنتقام ممن يصفون الإخوان بأنهم "خرفان" (قطيع)، قال لنطلق نحن أيضا على خصومنا السياسيين لقب "معيز" (ياللإبداع!).. وذلك- يقول- لأن المعزة بطبيعتها أنثى، مما يزيد المهانة طبعا.. وقال في برنامجه"ستقولون لي "لا تنابذوا بالألقاب"- ويرد :أنا مش شيخ يا معزة.. وكأن الآية تلزم المشايخ فقط)..

هذا الشاب الشوارعي هو الذي تجده في المنتديات يدافع عن الإسلام بالسب والشتم دون أن يكلف نفسه قراءة كتاب، وهو الذي تجده في الشوارع يثور دون أن يفهم ما الذي يثور ضده أو ما الذي يريده.. فهو يتعامل مع قضاياه كما يتعامل تجاه خناقة شارع..

وهكذا نجد لدينا إسلامات بقدر حال المجتمع وثقافته.. 

وللإنصاف فلا يجب الفصل بين تحولات الإسلاميين، وتحولات المجتمع عموما، فهذا التيار بالنهاية هو جزء من المجتمع، يرتقي بارتقائه وينحدر بانحداره..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق